عمل الله، وشخصيّة الله، والله ذاته (2)

شاركنا خلال اجتماعنا الأخير في موضوع مهمً للغاية. هل تتذكّرونه؟ دعوني أكرّره. كان موضوع شركتنا الأخيرة: عمل الله، وشخصيّة الله، والله ذاته. هل هذا موضوعٌ مهمّ لكم؟ أي جزءٍ منه هو الأكثر أهمّيّةً لكم؟ عمل الله، أم شخصيّة الله، أم الله نفسه؟ أي جزءٍ يهمّكم أكثر؟ أي جزءٍ ترغبون في السماع عنه أكثر من غيره؟ أعلم أنه من الصعب عليكم الإجابة عن ذلك السؤال؛ لأن شخصيّة الله يمكن رؤيتها في كل جانبٍ من جوانب عمله، ولأن شخصيّته تتجلى في عمله دائمًا وفي جميع الأماكن، ومن ثمّ فإنها تُمثّل الله نفسه. في خطّة التدبير الشاملة من لله، لا يمكن الفصل بين عمل الله، وشخصيّة الله، والله ذاته.

ضمّ محتوى شركتنا الأخيرة حول عمل الله رواياتٍ من الكتاب المُقدّس عن أحداث وقعت منذ زمنٍ طويل. كانت كلها قصصاً عن الإنسان والله، وهي عن أمور حدثت للإنسان، وفي الوقت نفسه تضمّنت مشاركة الله وتعبيره، ولذلك فإن هذه القصص تحمل قيمة ومغزى خاصين لمعرفة الله. بعد أن خلق الله البشر بدأ المشاركة مع الإنسان والتحدّث إليه، وبدأ يعبّر عن شخصيّته للإنسان. وهذا يعني أنه منذ تشارك الله لأول مرةٍ مع البشر بدأ يُعلِن للإنسان، دون توقّفٍ، عن جوهره وما لديه وماهيته. وبغضّ النظر عمّا إذا كان الناس في الماضي أو في الوقت الحاليّ بإمكانهم رؤية ذلك أو فهمه، يتحدّث الله إلى الإنسان ويعمل بين البشر، ويكشف عن شخصيّته ويُعبّر عن جوهره، وهذه حقيقةٌ لا يمكن لأحدٍ إنكارها. هذا يعني أيضًا أن شخصيّة الله وجوهره وما لديه وماهيته تنبع وتنكشف باستمرارٍ فيما يعمل ويتشارك مع الإنسان. لم يُخفِ أو يُخبّئ أيّ شيءٍ عن الإنسان، بل يُعلِن شخصيّته ويكشف عنها دون الاحتفاظ بأيّ شيءٍ. وهكذا، يأمل الله أن يتمكّن الإنسان من معرفته وفهم شخصيّته وجوهره. إنه لا يأمل في أن يتعامل الإنسان مع شخصيّته وجوهره كأسرارٍ أبديّة، ولا يريد أن ينظر البشر إلى الله على أنه لغزٌ لا يمكن حلّه أبدًا. لا يمكن للإنسان أن يعرف الطريق ويقبل إرشاد الله إلا عندما يعرف الجنس البشري الله، وليس إلا مثل هذا الجنس البشري هو ما يمكنه أن يحيا حقًّا تحت سيادة الله، ويحيا في النور، وسط بركات الله.

إن شخصية الله والكلمات التي تصدر عنه ويظهرها تُمثّل إرادته، كما أنها تُمثّل جوهره. عندما يتعامل الله مع الإنسان، فبغضّ النظر عمّا يقوله أو يعمله، أو الشخصيّة التي يكشف عنها، وبغضّ النظر عما يراه الإنسان من جوهر الله وما لديه وماهيته، فإنها جميعًا تُمثّل إرادة الله من نحو الإنسان. وبغضّ النظر عن مدى قدرة الإنسان على الإدراك أو الاستيعاب أو الفهم، فإن هذا كله يُمثّل إرادة الله، أي إرادة الله من نحو الإنسان. هذا لا شكّ فيه! إن إرادة الله من نحو الإنسان هي الكيفيّة التي يطلب من الناس أن يكونوا عليها، وما يطالبهم بأن يفعلوه، وكيفية طلبه منهم أن يعيشوا، وكيفية طلبه منهم أن يكونوا قادرين على تحقيق إرادة الله. هل هذه الأشياء لا تنفصل عن جوهر الله؟ بمعني آخر، إن الله يُظهر شخصيّته وكل ما لديه وما هو عليه في الوقت نفسه الذي يطلب مطالب من الإنسان. لا يوجد زيفٌ ولا ادّعاء ولا إخفاء ولا تجميل. ولكن لماذا يعجز الإنسان عن المعرفة، ولماذا لم يتمكّن قط من إدراك شخصيّة الله بوضوحٍ؟ ولماذا لم يُدرِك قط إرادة الله؟ إن ما يكشفه الله ويُظهره هو ما لدى الله نفسه وما هو عليه، وهو كل جانبٍ وملمح من شخصيّته الحقيقيّة، فلماذا لا يفهم الإنسان؟ لماذا يعجز الإنسان عن المعرفة العميقة؟ يوجد سببٌ مهمّ لهذا. ما هو هذا السبب؟ منذ زمن الخلق، لم يعامل الإنسان الله قط باعتباره الله. في الأزمنة القديمة، بغضّ النظر عمّا فعله الله فيما يتعلّق بالإنسان، أي الإنسان الذي كان قد خُلِقَ للتوّ، لم يكن الإنسان يتعامل مع الله سوى على أنه مجرد رفيق، أي شخص يُعتمد عليه، ولم تكن لدى الإنسان معرفةٌ أو فهم عن الله. وهذا يعني أن الإنسان لم يكن يعلم أن ما كان يُظهره هذا الكائن – هذا الكائن الذي اعتمد عليه واعتبره رفيقًا له كان هو جوهر الله، ولم يكن يعلم أن هذا الكائن هو الذي له السيادة على جميع الأشياء. ببساطةٍ، لم يتعرف الناس في ذلك الوقت على الله على الإطلاق. لم يعلموا أنه صنع السماء والأرض وجميع الأشياء، وكانوا يجهلون من أين جاء، وإضافة إلى ذلك، كانوا يجهلون كُنهه. بالطبع، لم يطلب الله من الإنسان في ذلك الوقت أن يعرفه أو يفهمه أو يفهم كل ما كان يفعله، أو أن يكون على علمٍ بإرادته، لأن هذه كانت أقدم الأزمنة التي تلت خلق الإنسان. عندما بدأ الله التجهيزات لعصر الناموس، عمل بعض الأشياء للإنسان، وبدأ أيضًا يطلب منه بعض الأمور، حيث أخبر الإنسان عن كيفيّة تقديم القرابين وعبادة الله. وفي ذلك الوقت فقط اكتسب الإنسان بعض الأفكار البسيطة عن الله، وعندها فقط عرف الفرق بينه وبين الله، وأن الله هو الذي خلق البشر. عندما عرف الإنسان الله وطبيعته ونفسه وطبيعتها، أصبحت توجد مسافةٌ مُعيّنة بينه وبين الله، ومع ذلك لم يطلب الله من الإنسان أن تكون لديه معرفةٌ كبيرة أو فهم عميق له. وهكذا، يطالب الله الإنسان بأمورٍ مختلفة على أساس مراحل عمله وظروفه. ماذا ترون في هذا؟ أيّ جانبٍ من جوانب شخصيّة الله تُدرِكونه؟ هل الله حقيقيٌّ؟ هل مطالب الله من الإنسان ملائمة؟ خلال الأزمنة الأولى التي أعقبت خلق الله للبشريّة، عندما لم يكن الله قد بدأ تنفيذ عمل إخضاع الإنسان وإكماله، ولم يكن يتحدّث إليه بالكثير من الكلمات، لم يكن يطلب إلا القليل من الإنسان. وبغضّ النظر عمّا فعله الإنسان وكيف تصرّف – حتّى لو كان قد فعل بعض الأشياء التي أساءت إلى الله – كان الله يغفر ويتغاضى عن كل شيءٍ. ذلك لأن الله كان يعرف ما أعطاه للإنسان وما لدى الإنسان، ومن ثمّ كان يعرف معيار المتطلّبات التي ينبغي عليه طلبها من الإنسان. ومع أن معيار متطلّباته كان منخفضًا جدًا في ذلك الوقت، فإن هذا لا يعني أن شخصيّته لم تكن عظيمة، أو أن حكمته وقدرته كانتا مُجرّد كلمات فارغة. من جهة الإنسان، لا توجد سوى طريقةٍ واحدة لمعرفة شخصيّة الله والله ذاته: اتّباع خطوات عمل تدبير الله وخلاص البشريّة، وقبول الكلام الذي يتحدّث به الله للبشريّة. هل يظل الإنسان يطلب من الله أن يُرِيه شخصه الحقيقيّ بعد معرفة ما لدى الله وما هو عليه ومعرفة شخصيّته؟ لا، لن يطلب الإنسان، ولن حتى يجرؤ على الطلب، لأنه بفهم الإنسان لشخصيّة الله وما لديه وما هو عليه سوف يكون قد رأى بالفعل الإله الحقيقيّ ذاته وشخصه الحقيقيّ. هذه هي النتيجة الحتميّة.

مع تقدُّم عمل الله وخطّته باستمرارٍ، وبعد أن قطع الله عهد قوس قزح مع الإنسان كعلامةٍ على أنه لن يُهلِك العالم مرةً أخرى بالطوفان، كانت لديه رغبةٌ مُلحّة متزايدة لربح أولئك الذين يمكن أن يكونوا في اتفاق معه. بل وكانت لديه رغبةٌ مُلحّة أيضًا في ربح أولئك الذين استطاعوا تنفيذ إرادته على الأرض، وإضافة إلى ذلك، ربح مجموعة من الناس القادرين على التحرّر من قوى الظلام وعدم الخضوع لقيود الشيطان؛ جماعة قادرة على تقديم الشهادة لله على الأرض. كان ربح هذه المجموعة من الناس رغبة الله التي طال أمدها، وهي ما كان ينتظره منذ زمن الخلق. وهكذا، بغضّ النظر عن استخدام الله للطوفان لإهلاك العالم، أو استخدام عهده مع الإنسان، فإن إرادة الله وإطاره العقلي وخطّته وآماله ظلّت كلها كما هي. ما أراد أن يفعله، والأمر الذي لطالما كان يتوق إليه منذ وقتٍ طويل قبل زمن الخلق، هو ربح أولئك الناس الذين رغب في ربحهم – أي كسب مجموعة من الناس القادرين على فهم شخصيّته ومعرفتها وفهم إرادته، مجموعة من الناس القادرين على عبادته. ستكون مثل هذه المجموعة من الناس قادرةٌ حقًّا على الشهادة له ويمكن القول إنهم سيكونون المقربين إليه.

دعونا اليوم نواصل تتّبع خطى الله واتّباع خطوات عمله حتى نتمكّن من كشف أفكار الله وآرائه وكل التفاصيل المختلفة التي لها علاقة بالله، وكل ما هو "مغلق بإحكام" لفترةٍ طويلة جدًا. من خلال هذه الأمور سوف نتعرف على شخصيّة الله، ونفهم جوهره، وسوف ندعه يدخل قلوبنا، وكل واحدٍ منا سوف يقترب ببطءٍ من الله، وبذلك نُقلّل من بُعدنا عن الله.

كان جزءٌ ممّا تحدّثنا عنه في المرة الأخيرة يتعلّق بالسبب الذي جعل الله يقطع ميثاقًا مع الإنسان. وهذه المرة، سوف نتشارك حول مقاطع الكتاب المُقدّس أدناه. دعونا نبدأ بالقراءة من الكتاب المُقدّس.

أولًا. إبراهيم

1. الله يعد إبراهيم بابنٍ

(التكوين 17: 15-17) "وَقَالَ ٱللهُ لِإِبْرَاهِيمَ: "سَارَايُ ٱمْرَأَتُكَ لَا تَدْعُو ٱسْمَهَا سَارَايَ، بَلِ ٱسْمُهَا سَارَةُ. وَأُبَارِكُهَا وَأُعْطِيكَ أَيْضًا مِنْهَا ٱبْنًا. أُبَارِكُهَا فَتَكُونُ أُمَمًا، وَمُلُوكُ شُعُوبٍ مِنْهَا يَكُونُونَ". فَسَقَطَ إِبْرَاهِيمُ عَلَى وَجْهِهِ وَضَحِكَ، وَقَالَ فِي قَلْبِهِ: "هَلْ يُولَدُ لِٱبْنِ مِئَةِ سَنَةٍ؟ وَهَلْ تَلِدُ سَارَةُ وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِينَ سَنَةً؟".

(التكوين 17: 21-22) "وَلَكِنْ عَهْدِي أُقِيمُهُ مَعَ إِسْحَاقَ ٱلَّذِي تَلِدُهُ لَكَ سَارَةُ فِي هَذَا ٱلْوَقْتِ فِي ٱلسَّنَةِ ٱلْآتِيَةِ". فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ ٱلْكَلَامِ مَعَهُ صَعِدَ ٱللهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ".

لا أحد يمكنه أن يُعيق العمل الذي يُقرّر الله فعله

هكذا سمعتم كلكم قصة إبراهيم، أليس كذلك؟ اختار الله إبراهيم بعد أن أهلك الطوفان العالم، وعندما كان عمره مائة عامٍ وكانت زوجته سارة في التسعين، جاءه وعد الله. ما الوعد الذي قطعه الله له؟ وعد الله بما هو مشارٌ إليه في الكتاب المُقدّس: "وَأُبَارِكُهَا وَأُعْطِيكَ أَيْضًا مِنْهَا ٱبْنًا". ماذا كانت خلفيّة وعد الله بأن يرزقه بابنٍ؟ يُقدّم الكتاب المُقدّس الرواية التالية: "فَسَقَطَ إِبْرَاهِيمُ عَلَى وَجْهِهِ وَضَحِكَ، وَقَالَ فِي قَلْبِهِ: "هَلْ يُولَدُ لِٱبْنِ مِئَةِ سَنَةٍ؟ وَهَلْ تَلِدُ سَارَةُ وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِينَ سَنَةً؟". وهذا يعني أن هذين الزوجين المسنين كانا قد تقدّما كثيرًا في الأيام حتّى يُرزقا بابنٍ. وماذا فعل إبراهيم بعد أن قدّم الله له وعده؟ سقط على وجهه وضحك وقال في قلبه: "هَلْ يُولَدُ لِٱبْنِ مِئَةِ سَنَةٍ؟". اعتقد إبراهيم أن هذا كان مستحيلًا، ممّا يعني أنه اعتقد أن وعد الله له لم يكن أكثر من مُجرّد مزحة. من وجهة نظر البشريّة، هذا أمر غير قابلٍ للتحقيق من قبل الإنسان، وبالمثل غير قابلٍ للتحقيق من قبل الله ويستحيل عليه. ربّما كان هذا الأمر لإبراهيم مثيرًا للضحك: "الله خلق الإنسان، ولكنه يبدو أنه لا يعرف أن شخصًا طاعنًا في السن غير قادر على إنجاب الأطفال. الله يعتقد أنه يستطيع أن يسمح لي بإنجاب طفلٍ، ويقول إنه سوف يرزقني بابنٍ، وبالتأكيد هذا مستحيلٌ!". وهكذا، سقط إبراهيم على وجهه وضحك وقال في قلبه: "مستحيلٌ – إن الله يمزح معي، فهذا لا يمكن أن يكون حقيقيًا!". لم يأخذ كلمات الله على محمل الجدّ. ولكن كيف كان الله يرى إبراهيم؟ (بارًا). أين جاء التصريح بأنه كان بارًا؟ تعتقدون أن جميع من يدعوهم الله هم أبرارٌ وكاملون وأنهم جميعًا يسيرون مع الله. أنتم تلتزمون بالتعليم! عليكم أن تروا بوضوحٍ أنه عندما يُعرّف الله شخصًا ما، فإنه لا يفعل ذلك بشكلٍ تعسفيّ. لم يقل الله هنا إن إبراهيم كان بارًا. ولكن الله لديه في قلبه معايير لتحديد كل شخصٍ. مع أن الله لم يقل رأيه عن إبراهيم، ما نوع إيمان إبراهيم بالله من حيث سلوكه؟ هل كان إيمانًا مُجرّدًا بشكلٍ ما؟ أم كان إيمانه عظيمًا؟ كلا، لم يكن! لقد كشف ضحكه وأفكاره عن شخصيّته، ولذلك فإن اعتقادكم بأنه كان بارًا من نسج خيالكم، إنه التطبيق الأعمى للتعليم، وتقييمٌ غير مسؤولٍ. هل رأى الله ضحك إبراهيم وتعابيره الصغيرة؟ هل علم بها؟ كان الله يعرفها. ولكن هل سيُغيّر الله ما قرّر أن يفعله؟ لا! عندما خطّط الله وقرّر أنه سوف يختار هذا الرجل، تحقق الأمر. لم تُؤثّر أفكار الإنسان ولا تصرّفاته أدنى تأثيرٍ على الله ولم تتداخل معه. لن يُغيّر الله خطّته تعسفيًّا، ولن يُغيّر خطّته أو يُبطِلها ارتجالًا بسبب سلوك الإنسان، حتى السلوك الذي قد يكون جاهلًا. ما معنى المكتوب إذًا في التكوين 17: 21-22؟ "وَلَكِنْ عَهْدِي أُقِيمُهُ مَعَ إِسْحَاقَ ٱلَّذِي تَلِدُهُ لَكَ سَارَةُ فِي هَذَا ٱلْوَقْتِ فِي ٱلسَّنَةِ ٱلْآتِيَةِ". فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ ٱلْكَلَامِ مَعَهُ صَعِدَ ٱللهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ". لم يهتمّ الله أدنى اهتمامٍ بما فكّر به إبراهيم أو قاله. وماذا كان سبب تجاهله؟ كان السبب في ذلك هو أن الله في ذلك الوقت لم يطلب من الإنسان أن يكون إيمانه عظيمًا أو أن يملك معرفة عظيمة بالله، أو، إضافة إلى ذلك، أن يكون قادرًا على فهم ما كان الله يعمله ويقوله. وهكذا، لم يطلب الله من الإنسان أن يفهم تمامًا ما قرّر الله أن يفعله، أو الأشخاص الذين قرّر أن يختارهم، أو مبادئ أفعاله، لأن قامة الإنسان ببساطةٍ لم تكن ملائمة. في ذلك الوقت، لاحظ الله ما فعله إبراهيم ومع ذلك تصرّف كالمعتاد. لم يدن أو يُوبّخ، ولكنه اكتفى بالقول: "ٱلَّذِي تَلِدُهُ لَكَ سَارَةُ فِي هَذَا ٱلْوَقْتِ فِي ٱلسَّنَةِ ٱلْآتِيَةِ". بعد أن أعلن الله هذه الكلمات تحقّق هذا الأمر خطوة بخطوةٍ. اعتبر الله أن ما كان ينبغي تحقيقه بخطّته قد تحقّق بالفعل. وبعد الانتهاء من هذه الترتيبات، رحل الله. لا شيء ممّا يفعله الإنسان أو يعتقده، وما يفهمه، وما يُخطّطه، له أيّة علاقةٍ بالله. كل شيءٍ يمضي وفق خطّة الله، وفق الأزمنة والمراحل التي يحدّدها الله. هذا هو مبدأ عمل الله. لا يتدخّل الله في ما يُفكّر فيه أيّ إنسانٍ أو يعرفه، ومع ذلك لا يتخلّى عن خطّته ولا يتخلّى عن عمله لمجرد أن الإنسان لا يؤمن أو يفهم. وهكذا تُنجز الحقائق وفق خطّة الله وأفكاره. وهذا بالضبط ما نراه في الكتاب المُقدّس: أتمّ الله ولادة إسحاق في الوقت الذي حدّده. هل تُثبِت الحقائق أن سلوك الإنسان وتصرّفه أعاقا عمل الله؟ لم يُعيقا عمل الله! هل أثّر إيمان الإنسان الضعيف بالله ومفاهيمه وتخيلاته عن الله في عمل الله؟ كلا، لم تؤثر! مطلقًا! لا تتأثّر خطّة تدبير الله بأيّ إنسانٍ أو مادة أو بيئة. كل ما يعتزم عمله سوف يتحقق ويُنجز في الوقت المُحدّد ووفق خطّته، ولا يمكن لأيّ شخصٍ التدخّل في عمله. لا يُعير الله أدنى اهتمامٍ لحماقة الإنسان وجهله، بل إنه يتجاهل بعضًا من جوانب معاندة الإنسان له وبعض جوانب مقاومته ومفاهيمه تجاهه، ويؤدي العمل الذي ينبغي عمله رغم ذلك. هذه هي شخصيّة الله، وهذا انعكاسٌ لكليّة قدرته.

2. إبراهيم يُقدّم ابنه محرقةٍ

(التكوين 22: 2-3) "فَقَالَ: "خُذِ ٱبْنَكَ وَحِيدَكَ، ٱلَّذِي تُحِبُّهُ، إِسْحَاقَ، وَٱذْهَبْ إِلَى أَرْضِ ٱلْمُرِيَّا، وَأَصْعِدْهُ هُنَاكَ مُحْرَقَةً عَلَى أَحَدِ ٱلْجِبَالِ ٱلَّذِي أَقُولُ لَكَ". فَبَكَّرَ إِبْرَاهِيمُ صَبَاحًا وَشَدَّ عَلَى حِمَارِهِ، وَأَخَذَ ٱثْنَيْنِ مِنْ غِلْمَانِهِ مَعَهُ، وَإِسْحَاقَ ٱبْنَهُ، وَشَقَّقَ حَطَبًا لِمُحْرَقَةٍ، وَقَامَ وَذَهَبَ إِلَى ٱلْمَوْضِعِ ٱلَّذِي قَالَ لَهُ ٱللهُ".

(التكوين 22: 9-10) "فَلَمَّا أَتَيَا إِلَى ٱلْمَوْضِعِ ٱلَّذِي قَالَ لَهُ ٱللهُ، بَنَى هُنَاكَ إِبْرَاهِيمُ ٱلْمَذْبَحَ وَرَتَّبَ ٱلْحَطَبَ وَرَبَطَ إِسْحَاقَ ٱبْنَهُ وَوَضَعَهُ عَلَى ٱلْمَذْبَحِ فَوْقَ ٱلْحَطَبِ. ثُمَّ مَدَّ إِبْرَاهِيمُ يَدَهُ وَأَخَذَ ٱلسِّكِّينَ لِيَذْبَحَ ٱبْنَهُ".

يبدأ عمل تدبير الله وخلاص البشر بتضحية إبراهيم بابنه إسحاق

بعد أن رزق الله إبراهيم بابنٍ، تحققّت كلماته التي قالها لإبراهيم. هذا لا يعني أن خطّة الله توقّفت هنا؛ ولكن على العكس من ذلك، فإن خطّة الله الرائعة لتدبير البشريّة وخلاصها كانت قد بدأت للتوّ، ومباركته لابن إبراهيم لم تكن سوى مُقدّمة لخطّة تدبيره الشاملة. في تلك اللحظة، مَنْ كان يعرف أن معركة الله مع الشيطان بدأت بهدوءٍ عندما قدّم إبراهيم إسحاق كمحرقةٍ؟

لا يهتمّ الله بحماقة الإنسان ولكنه يطلب من الإنسان أن يكون صادقًا

دعونا ننظر بعد ذلك إلى ما فعله الله لإبراهيم. في التكوين 22: 2 أمر الله إبراهيم قائلًا: "خُذِ ٱبْنَكَ وَحِيدَكَ، ٱلَّذِي تُحِبُّهُ، إِسْحَاقَ، وَٱذْهَبْ إِلَى أَرْضِ ٱلْمُرِيَّا، وَأَصْعِدْهُ هُنَاكَ مُحْرَقَةً عَلَى أَحَدِ ٱلْجِبَالِ ٱلَّذِي أَقُولُ لَكَ". كان المعنى الذي يقصده الله واضحًا: كان يطلب من إبراهيم أن يُقدّم ابنه الوحيد إسحاق، الذي كان يُحبّه، محرقةٍ. بالنظر إلى هذا الأمر اليوم، هل ما زال أمر الله يتعارض مع تصوّرات الإنسان؟ نعم! كل ما فعله الله في ذلك الوقت يتناقض تمامًا مع مفاهيم الإنسان؛ إنه غير مفهومٍ للإنسان. يؤمن الناس في تصوّراتهم بما يلي: عندما لا يُصدّق المرء معتقدًا أن الأمر مستحيل، يرزقه الله بابنٍ، وبعد أن يُرْزَقَ بابنٍ يطلب الله منه أن يضحي بابنه. أليس هذا عصيًّا تمامًا على التصديق؟ ماذا كان ينوي الله أن يعمله بالفعل؟ ماذا كان مقصد الله الفعليّ؟ لقد رُزِقَ إبراهيم بابنٍ دون شرطٍ، لكن الله طلب أيضًا من إبراهيم أن يُقدّم محرقة غير مشروطةٍ. هل كان هذا أمرًا مبالغًا فيه؟ من وجهة نظرٍ محايدة، لم يكن هذا الأمر مبالغًا فيه فحسب، بل كان أيضًا أشبه "بإثارة المتاعب بلا مبرر". لكن إبراهيم نفسه لم يعتقد أن الله كان يطلب الكثير. ومع أنه كانت لديه بضع أفكار قليلة حول الأمر، وكان مُتشكّكًا قليلًا من الله، فقد كان لا يزال مستعدًا لتقديم المحرقة. في هذه المرحلة، ما الذي تراه يُثبِت أن إبراهيم كان مستعدًا لتقديم ابنه؟ ما الذي يُقال في هذه العبارات؟ يُقدّم النصّ الأصليّ الروايات التالية: "فَبَكَّرَ إِبْرَاهِيمُ صَبَاحًا وَشَدَّ عَلَى حِمَارِهِ، وَأَخَذَ ٱثْنَيْنِ مِنْ غِلْمَانِهِ مَعَهُ، وَإِسْحَاقَ ٱبْنَهُ، وَشَقَّقَ حَطَبًا لِمُحْرَقَةٍ، وَقَامَ وَذَهَبَ إِلَى ٱلْمَوْضِعِ ٱلَّذِي قَالَ لَهُ ٱللهُ" (التكوين 22: 3). "فَلَمَّا أَتَيَا إِلَى ٱلْمَوْضِعِ ٱلَّذِي قَالَ لَهُ ٱللهُ، بَنَى هُنَاكَ إِبْرَاهِيمُ ٱلْمَذْبَحَ وَرَتَّبَ ٱلْحَطَبَ وَرَبَطَ إِسْحَاقَ ٱبْنَهُ وَوَضَعَهُ عَلَى ٱلْمَذْبَحِ فَوْقَ ٱلْحَطَبِ. ثُمَّ مَدَّ إِبْرَاهِيمُ يَدَهُ وَأَخَذَ ٱلسِّكِّينَ لِيَذْبَحَ ٱبْنَهُ" (التكوين 22: 9-10). عندما مدّ إبراهيم يده وأخذ السكين ليذبح ابنه، هل رأى الله أعماله؟ نعم. فالعملية كلها – منذ البداية عندما طلب الله من إبراهيم أن يُقدّم إسحاق محرقةً إلى الوقت الذي رفع فيه إبراهيم سكينه ليذبح ابنه – كشفت لله عن قلب إبراهيم، وبغضّ النظر عن حماقة إبراهيم السابقة وجهله وسوء فهمه لله، كان قلبه في ذلك الوقت صادقًا وأمينًا وكان ينوي بالفعل إعادة إسحاق، ابنه الذي رزقه الله إياه، إلى الله. رأى الله فيه الطاعة – تلك الطاعة ذاتها التي كان يريدها.

يرى الإنسان أن الله يعمل الكثير من الأمور غير المفهومة، بل وغير القابلة للتصديق. عندما يرغب الله في تنظيم شخصٍ ما، فإن هذا التنظيم غالبًا ما يكون متعارضًا مع مفاهيم الإنسان، وغير مفهومٍ له، ومع ذلك فإن هذا التنافر والغموض على وجه التحديد هما تجربة الله واختباره للإنسان. في الوقت نفسه، استطاع إبراهيم أن يبرهن على طاعة الله داخل نفسه، والتي كانت الشرط الأكثر جوهريّة في قدرته على تلبية طلب الله. وعندها فقط، عندما تمكّن إبراهيم من طاعة طلب الله، بتقديم إسحاق، هل شعر الله حقًّا بالاطمئنان والقبول تجاه البشريّة – أي تجاه إبراهيم الذي اختاره؟ عندها فقط كان الله واثقًا من أن هذا الشخص الذي اختاره كان قائدًا لا غنى عنه يستطيع أن يأخذ وعده وخطّة تدبيره اللاحقة على عاتقه. مع أن هذا كان مُجرّد تجربة واختبار، إلا أن الله شعر بالرضا وبمحبّة الإنسان له، وبالارتياح من طرف الإنسان كما لم يحدث من قبل. في اللحظة التي رفع فيها إبراهيم سكينه ليذبح إسحاق، هل منعه الله؟ لم يسمح الله لإبراهيم بالتضحية بإسحاق، لأن الله ببساطةٍ لم يكن ينوي أن يأخذ حياة إسحاق. ومن ثمَّ، أوقف الله إبراهيم في الوقت المناسب. رأى الله أن طاعة إبراهيم اجتازت الاختبار بالفعل وأن ما فعله كان كافيًا، ورأى الله بالفعل نتيجة ما كان ينوي فعله. هل كانت هذه النتيجة مُرضية لله؟ يمكن القول إن هذه النتيجة كانت مُرضية لله، وإن هذا ما أراده الله وما كان يتوق لرؤيته. هل هذا صحيحٌ؟ مع أن الله يستخدم طرقًا مختلفة في سياقاتٍ مختلفة لاختبار كل شخصٍ، فقد رأى الله في إبراهيم ما أراده، ورأى أن قلب إبراهيم كان صادقًا، وأن طاعته كانت غير مشروطةٍ، وكان الله لا يريد سوى هذا الجانب "غير المشروط". كثيرًا ما يقول الناس، "لقد قدّمت هذا بالفعل وتركت ذلك بالفعل – فلماذا لا يزال الله غير راضٍ عني؟ لماذا يستمرّ في إخضاعي للتجارب؟ لماذا يستمرّ في اختباري؟". هذا يدلّ على حقيقةٍ واحدة: الله لم يرَ قلبك، ولم يربح قلبك. وهذا يعني أنه لم يرَ مثل هذا الصدق الذي كان لدى إبراهيم عندما رفع سكينه ليذبح ابنه بيده ويُقدّمه لله. لم يرَ طاعتك غير المشروطة، ولم يشعر بالرضا منك. من الطبيعيّ إذًا أن يستمرّ الله في تجربتك. أليس هذا صحيحًا؟ سوف نترك هذا الموضوع عند هذه النقطة. وبعد ذلك، سوف نقرأ "وعد الله لإبراهيم".

3. وعد الله لإبراهيم

(التكوين 22: 16-18) "بِذَاتِي أَقْسَمْتُ، يَقُولُ يَهْوَه، أَنِّي مِنْ أَجْلِ أَنَّكَ فَعَلْتَ هَذَا ٱلْأَمْرَ، وَلَمْ تُمْسِكِ ٱبْنَكَ وَحِيدَكَ، أُبَارِكُكَ مُبَارَكَةً، وَأُكَثِّرُ نَسْلَكَ تَكْثِيرًا كَنُجُومِ ٱلسَّمَاءِ وَكَالرَّمْلِ ٱلَّذِي عَلَى شَاطِئِ ٱلْبَحْرِ، وَيَرِثُ نَسْلُكَ بَابَ أَعْدَائِهِ، وَيَتَبَارَكُ فِي نَسْلِكَ جَمِيعُ أُمَمِ ٱلْأَرْضِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّكَ سَمِعْتَ لِقَوْلِي".

هذا وصفٌ كامل لبركة الله لإبراهيم. ومع أنه موجز، إلا أنه غنيٌ في محتواه: إنه يشمل سبب عطيّة الله لإبراهيم وخلفية ذلك وطبيعة ما أعطاه لإبراهيم. كما أنه يفيض بالبهجة والفرح اللذين عبّر بهما الله عن هذه الكلمات، بالإضافة إلى إلحاح اشتياقه لربح أولئك القادرين على الاستماع إلى كلماته. نرى في هذا اعتزاز الله ورقته تجاه من يطيعون كلامه ويتبعون وصاياه. كما إننا نرى الثمن الذي يدفعه لربح الناس، والرعاية والتفكير اللذين يضعهما لربحهم. إضافة إلى ذلك، يُقدّم لنا المقطع الذي يحتوي على الكلمات "بِذَاتِي أَقْسَمْتُ" إحساسًا قويًّا بالمرارة والألم اللذين لم يكن يتحمّلهما سوى الله وراء كواليس هذا العمل في خطّة تدبيره. إنها عبارةٌ مُحفّزة للتفكير، وكانت تحمل دلالةً خاصة للذين جاؤوا فيما بعد، وكان لها تأثيرٌ بعيد المدى عليهم.

الإنسان ينال بركات الله بفضل صدقه وطاعته

هل كانت البركة التي أعطاها الله لإبراهيم التي نقرأ عنها هنا رائعة؟ ما مدى روعتها بالضبط؟ توجد جملةٌ رئيسيّة هنا: "وَيَتَبَارَكُ فِي نَسْلِكَ جَمِيعُ أُمَمِ ٱلْأَرْضِ". وهذه الجملة تدلّ على أن إبراهيم نال بركات لم ينلها أي شخصٍ جاء من قبله أو بعده. بحسب طلب الله، عندما أعاد إبراهيم ابنه الوحيد – ابنه الوحيد المحبوب – إلى الله (لا يمكننا هنا استخدام كلمة "قدّم"؛ ولكن يجب أن نقول إنه أعاد ابنه إلى الله)، فإن الله لم يسمح لإبراهيم بأن يُقدّم إسحاق وحسب، بل باركه أيضًا. بأيّ وعدٍ بارك إبراهيم؟ لقد باركه بالوعد بتكثير ذريته. وبأيّ عددٍ سوف يُكثّرهم؟ يُقدّم الكتاب المُقدّس الرواية التالية: "كَنُجُومِ ٱلسَّمَاءِ وَكَالرَّمْلِ ٱلَّذِي عَلَى شَاطِئِ ٱلْبَحْرِ، وَيَرِثُ نَسْلُكَ بَابَ أَعْدَائِهِ، وَيَتَبَارَكُ فِي نَسْلِكَ جَمِيعُ أُمَمِ ٱلْأَرْضِ". ماذا كان السياق الذي نطق فيه الله بهذه الكلمات؟ بمعنى آخر، كيف نال إبراهيم بركات الله؟ لقد نالها بحسب ما يقوله الله في الكتاب المُقدّس: "مِنْ أَجْلِ أَنَّكَ سَمِعْتَ لِقَوْلِي". وهذا يعني أنه بسبب أن إبراهيم اتّبع أمر الله، وفعل كل ما قاله الله وطلبه وأمر به من دون أدنى شكوى، فإن الله قدّم له هذا الوعد. توجد جملةٌ حاسمة في هذا الوعد تتطرّق إلى أفكار الله في ذلك الوقت. هل رأيتموها؟ ربمّا لم تولوا تعبير الله "بِذَاتِي أَقْسَمْتُ" الكثير من الاهتمام. ما يقصده هذا التعبير هو أنه عندما نطق الله هاتين الكلمتين كان يُقسِم بذاته. بماذا يُقسِم الناس عند أداء القسم؟ يُقسِمون بالسماء، أي يؤدون القسم لله ويُقسِمون بالله. قد لا يملك الناس فهمًا كافيًا لواقعة قسم الله بذاته، ولكن سوف تتمكنون من الفهم عندما أقدّم لكم التفسير الصحيح. عندما واجه الله رجلًا لا يسمع سوى كلامه ولكنه لا يفهم قلبه، شعر الله مرة أخرى بالوحدة والحيرة. في لحظة يأسٍ – ويمكن القول إنه لا شعوريًا – فعل الله شيئًا طبيعيًّا للغاية: وضع الله يده على قلبه وخاطب نفسه عندما قدّم هذا الوعد لإبراهيم، ومن هذا سمع الإنسان الله يقول "بِذَاتِي أَقْسَمْتُ". من خلال أعمال الله، ربمّا تفكّر في نفسك. عندما تضع يدك على قلبك وتتحدّث إلى نفسك، هل تكون لديك فكرةٌ واضحة عمّا تقوله؟ هل موقفك صادق؟ هل تتحدّث بصراحةٍ مع قلبك؟ وهكذا، نرى هنا أنه عندما تحدّث الله إلى إبراهيم، فإنه كان جادًا وصادقًا. في الوقت نفسه الذي تحدّث فيه الله مع إبراهيم وباركه، كان الله يتحدّث أيضًا إلى نفسه. كان يقول لنفسه: سوف أبارك إبراهيم وأجعل نسله كثيرًا كنجوم السماء وكالرمل الذي على شاطئ البحر، لأنه أطاع كلماتي، وهو مَنْ أختاره. عندما قال الله "بِذَاتِي أَقْسَمْتُ"، قرّر أنه في إبراهيم سوف يأتي ببني إسرائيل المختار، وبعد ذلك سيقود هذا الشعب إلى الأمام بسرعةٍ من خلال عمله. أي أن الله كان سيجعل أحفاد إبراهيم يحملون عمل تدبير الله، وأن عمل الله وما عبّر عنه الله سوف يبدأ بإبراهيم ويستمرّ في نسل إبراهيم، ومن ثمَّ تتحقّق رغبة الله في خلاص الإنسان. ماذا ترون في هذا؟ أليس هذا شيئًا مباركًا؟ يرى الإنسان أنه لا توجد نعمةٌ أعظم من هذا؛ ويمكن القول إن هذا أعظم بركةٍ. لم تكن البركة التي نالها إبراهيم تكثير نسله، بل تحقيق الله لتدبيره ومهمّته وعمله في نسل إبراهيم. وهذا يعني أن البركات التي نالها إبراهيم لم تكن مُؤقّتة، بل استمرّت مع تقدّم خطّة تدبير الله. عندما تكلّم الله وأقسم بنفسه، كان قد اتّخذ قرارًا بالفعل. هل كانت عملية هذا القرار صادقة؟ هل كانت حقيقيّة؟ قرّر الله أنه، من ذلك الوقت فصاعداً، أن ينال إبراهيم ونسله جهود الله والثمن الذي دفعه وما لديه وما هو عليه وكل شيءٍ، وحتّى حياته. كما قرّر الله أنه بدءًا من هذه المجموعة من الناس سوف يكشف عن أعماله ويسمح للإنسان بأن يرى حكمته وسلطانه وقدرته.

رغبة الله الثابتة هي كسب أولئك الذين يعرفون الله وقادرون على الشهادة له

في الوقت نفسه الذي كلّم فيه الله ذاته، تكلّم أيضًا مع إبراهيم، ولكن بصرف النظر عن سماع البركات التي وهبها الله له، هل كان إبراهيم قادرًا على فهم رغبات الله الحقيقيّة في جميع كلماته في تلك اللحظة؟ كلا، لم يكن! وهكذا، في تلك اللحظة، عندما أقسم الله بذاته، كان قلبه لا يزال وحيدًا وحزينًا. لم يوجد شخصٌ واحد قادر على فهم أو استيعاب ما قصده الله وخطّط له. في تلك اللحظة، لم يتمكّن أيّ شخصٍ – بما في ذلك إبراهيم – من التحدّث إليه واثقًا، ولم يوجد أيّ شخصٍ قادر على التعاون معه في أداء العمل الذي ينبغي عليه إتمامه. من الناحية الظاهريّة، ربح الله إبراهيم، وربح شخصًا يمكنه أن يطيع كلامه. ولكن في الواقع، لم تكن لدى هذا الشخص أدنى معرفة بالله. ومع أن الله بارك إبراهيم، إلا أن قلب الله لم يكن راضيًا بعد. ما معنى أن الله لم يكن راضيًا؟ هذا يعني أن تدبيره كان قد بدأ للتوّ، وأن الناس الذين أراد ربحهم، والشعب الذي تاق لرؤيته، والشعب الذي أحبّه، كانوا لا يزالون بعيدين عنه. لقد كان بحاجةٍ إلى الوقت، وكان بحاجةٍ إلى الانتظار، وكان بحاجةٍ إلى التحلّي بالصبر. لأنه في ذلك الوقت، بصرف النظر عن الله نفسه، لم يعرف أحدٌ ما الذي كان يحتاجه، أو ما كان يرغب في ربحه، أو ما كان يتوق إليه. وهكذا، في الوقت نفسه الذي كان الله يشعر فيه بالحماس، كان يشعر أيضًا بحزنٍ في قلبه. ومع ذلك، لم يوقف خطواته وواصل التخطيط للخطوة التالية لما كان ينبغي عليه أن يفعله.

ماذا ترون في وعد الله لإبراهيم؟ منح الله إبراهيم بركات عظيمة لمُجرّد أنه أطاع كلام الله. ومع أن هذا يبدو من الناحية الظاهريّة طبيعيًا وبديهيًّا، إلا أننا نرى فيه قلب الله: فالله يُثمّن على وجهٍ خاص طاعة الإنسان له، ويعتزّ بفهم الإنسان له وصدقه أمامه. ما مقدار اعتزاز الله بهذا الصدق؟ قد لا تفهمون مقدار اعتزازه به، وربمّا لا يوجد مَنْ يدرك ذلك. رزق الله إبراهيم بابنٍ، وعندما كبر ذلك الابن، طلب الله من إبراهيم تقديمه له. اتّبع إبراهيم أمر الله بالحرف، وأطاع كلمته، فأثار صدقه مشاعر الله وأصبح موضع اعتزاز الله. كم قدّر الله هذا؟ ولماذا قدّره؟ في وقتٍ لم يكن أحدٌ يستوعب كلمات الله أو يفهم قلبه، صنع إبراهيم شيئًا رجّ السماوات وجعل الأرض ترتجف، وجعل الله يشعر شعورًا غير مسبوقٍ بالرضا، وغمره بفرحة ربح شخصٍ استطاع أن يطيع كلماته. نبع هذا الرضا والفرح من مخلوقٍ صنعته يد الله، وكانت أول "ذبيحة" قدّمها الإنسان لله فكان مصدر تقديرٍ كبير من الله منذ أن خُلق الإنسان. مرّ الله بوقتٍ عصيب في انتظار هذه الذبيحة، وتعامل معها بصفتها أول هديةٍ من الإنسان الذي خلقه. فقد أظهرت لله أول ثمرةٍ لجهوده وللثمن الذي دفعه، وسمحت له برؤية الرجاء في الجنس البشريّ. بعد ذلك، كان الله لديه شوقٌ أكبر لمجموعة من مثل هؤلاء الناس ليبقوا في رفقته، ويتعاملوا معه بصدقٍ، ويتعهّدوا له بأمانةٍ. كان الله يأمل حتّى في أن يستمرّ إبراهيم حيًّا؛ لأنه كان يرغب في أن يرافقه قلب مثل قلب إبراهيم، وأن يكون معه أثناء استمراره في تدبيره. مهما كان ما أراده الله، فقد كانت مُجرّد رغبة، مُجرّد فكرة – لأن إبراهيم كان مُجرّد رجل استطاع إطاعة الله، ولم يكن لديه أدنى فهمٍ عن الله أو معرفة به. كان إبراهيم شخصاً لا يرقى لمستوى متطلّبات الله من الإنسان؛ وهي: معرفة الله والقدرة على الشهادة لله والانسجام مع الله. لذا لم يستطع إبراهيم السير مع الله. رأى الله في تقدمة إبراهيم إسحاق محرقةٍ إخلاص إبراهيم وطاعته، ورأى أنه اجتاز اختبار الله له. ومع أن الله قَبِلَ صدق إبراهيم وطاعته، إلا أنه كان لا يزال غير جديرٍ بأن يصبح مُقرّبًا لله، وأن يصبح شخصًا يعرف الله ويفهمه، ويكون على معرفة بشخصيّة الله. كان بعيدًا عن أن يكون منسجمًا مع الله ويُنفّذ إرادته. وهكذا، كان الله في قلبه لا يزال وحيدًا ومتشوّقًا. وكلّما أصبح الله وحيدًا ومتشوّقًا، كان بحاجةٍ إلى مواصلة تدبيره في أقرب وقتٍ ممكن، والتمكّن من اختيار مجموعة من الناس وربحهم لإنجاز خطّة تدبيره وتحقيق إرادته في أقرب وقتٍ ممكن. كانت هذه رغبة الله المتلهّفة، وظلّت من دون تغييرٍ منذ البداية وحتّى اليوم. منذ أن خلق الله الإنسان في البداية، كان يتوق إلى مجموعةٍ من الغالبين، أي مجموعة تسير معه وتكون قادرة على فهم شخصيّته ومعرفتها واستيعابها. لم تتغيّر رغبة الله هذه قط. بغضّ النظر عن طول المدة التي ما زال على الله أن ينتظرها، وبغضّ النظر عن مدى صعوبة الطريق أمامه، وبغضّ النظر عن مدى بُعد الأهداف التي يتوق إليها، فإنه لم يُغيّر توقّعاته من الإنسان ولم يتخلّ عنها. والآن بعد أن قلت هذا، هل تدركون شيئًا عن رغبة الله؟ ربمّا يكون ما أدركتموه غير عميقٍ للغاية – ولكنه سوف يأتي تدريجيًّا!

في الزمان الذي عاش فيه إبراهيم، دمّر الله مدينة أيضًا. دُعيت هذه المدينة سدوم. لا شكّ أن العديد من الناس يعرفون قصة سدوم، ولكن لا أحد يعرف أفكار الله التي شكّلت خلفيّة تدميره للمدينة.

وهكذا الأمر اليوم، من خلال حوارات الله مع إبراهيم أدناه، سوف نعرف أفكاره في ذلك الوقت، بينما نتعرف أيضًا على شخصيّته. بعد ذلك، دعونا نقرأ المقاطع التالية من الكتاب المُقدّس.

ثانيًا. يتعيّن على الله تدمير سدوم

(التكوين 18: 26) "فَقَالَ يَهْوَه: "إِنْ وَجَدْتُ فِي سَدُومَ خَمْسِينَ بَارًّا فِي ٱلْمَدِينَةِ، فَإِنِّي أَصْفَحُ عَنِ ٱلْمَكَانِ كُلِّهِ مِنْ أَجْلِهِمْ".

(التكوين 18: 29) "فَعَادَ يُكَلِّمُهُ أَيْضًا وَقَالَ: "عَسَى أَنْ يُوجَدَ هُنَاكَ أَرْبَعُونَ". فَقَالَ: "لَا أَفْعَلُ".

(التكوين 18: 30) "فَقَالَ: "عَسَى أَنْ يُوجَدَ هُنَاكَ ثَلَاثُونَ". فَقَالَ: "لَا أَفْعَلُ".

(التكوين 18: 31) "فَقَالَ: "عَسَى أَنْ يُوجَدَ هُنَاكَ عِشْرُونَ". فَقَالَ: "لَا أُهْلِكُ".

(التكوين 18: 32) "فَقَالَ: "عَسَى أَنْ يُوجَدَ هُنَاكَ عَشْرَةٌ". فَقَالَ: "لَا أُهْلِكُ".

هذه بعض المقتطفات التي اخترتها من الكتاب المُقدّس. إنها ليست الروايات الكاملة والأصليّة. إذا رغبتم في الاطّلاع على تلك الكاملة، فيمكنكم البحث عنها في الكتاب المُقدّس بأنفسكم. لتوفير الوقت، حذفت جزءًا من المحتوى الأصليّ. لم اختر إلا بعض العبارات والجمل الرئيسيّة وتركت عدة عباراتٍ لا تُؤثّر على مشاركتنا اليوم. في جميع العبارات والمحتويات التي نتشارك حولها، يتجاوز تركيزنا عن تفاصيل القصص وسلوك الإنسان في القصص؛ وبدلاً من ذلك، لا نتحدّث إلا عن أفكار الله وآرائه في ذلك الوقت. في أفكار الله وآرائه، سوف نرى شخصيّة الله، ومن كل ما عمله الله سوف نرى الإله الحقيقيّ نفسه – وفي هذا سوف نُحقّق هدفنا.

لا يهتمّ الله سوى بمَنْ يستطيعون طاعة كلامه واتّباع وصاياه

تحتوي الفقرات أعلاه على عدة كلماتٍ رئيسيّة: الأرقام. أولًا، قال يهوه إنه إذا وجد خمسين بارًا في المدينة فسوف يَصفَح عن المكان، أي لن يُهلِك المدينة. فهل وُجد، في الواقع، خمسون بارًا في سدوم؟ كلا، لم يُوجد. بعد فترةٍ وجيزة، ماذا قال إبراهيم لله؟ قال: "عَسَى أَنْ يُوجَدَ هُنَاكَ أَرْبَعُونَ". فأجاب الله: "لَا أَفْعَلُ مِنْ أَجْلِ ٱلْأَرْبَعِينَ". ثم قال إبراهيم: "عَسَى أَنْ يُوجَدَ هُنَاكَ ثَلاَثُونَ". فأجاب الله: "لاَ أَفْعَلُ إِنْ وَجَدْتُ هُنَاكَ ثَلاَثِينَ". ثم قال إبراهيم: "عَسَى أَنْ يُوجَدَ هُنَاكَ عِشْرُونَ". فأجاب الله: "لَا أُهْلِكُ مِنْ أَجْلِ ٱلْعِشْرِينَ". ثم قال إبراهيم: "عَسَى أَنْ يُوجَدَ هُنَاكَ عَشَرَةٌ". فأجاب الله: "لَا أُهْلِكُ مِنْ أَجْلِ ٱلْعَشْرَةِ". هل وُجد في الواقع عشرة أبرارٍ في المدينة؟ لم يوجد هناك عشرة، ولكن وُجد واحدٌ فقط. ومَنْ كان هذا الشخص؟ كان لوط. لم يُوجد في ذلك الوقت سوى شخص واحد بار في سدوم، ولكن هل كان الله صارمًا جدًّا أو قاسيًا عندما وصل الأمر إلى هذا العدد؟ كلا، لم يكن كذلك! وهكذا عندما ظلّ الإنسان يسأل: "ولو كان هناك أربعون؟"، "ولو كان هناك ثلاثون"، "ولو كان هناك عشرة"، أجاب الله بما معناه: "حتّى إذا وُجد هناك عشرة فقط فلن أهلِك المدينة ولكني أصفح عنها وأغفر للناس الآخرين إلى جانب هؤلاء العشرة". لو كان هناك عشرة فقط لكان ذلك كافيًا للدعوة إلى الشفقة، ولكن اتّضح أنه، في الواقع، لم يكن يُوجد حتّى هذا العدد من الأبرار في سدوم. ترى، إذًا، أنه في نظر الله، لم تترك خطيّة شعب المدينة وشرّه لله سوى خيار إهلاكهم. ماذا قصد الله عندما قال إنه لن يُهلِك المدينة إذا وُجد خمسون بارًا؟ لم تكن هذه الأعداد مهمّة لله. كان المهمّ هو ما إذا كانت المدينة يسكن بها البار الذي كان يريده أم لا. إذا لم يكن في المدينة سوى بار واحد، فلن يسمح له الله بالضرر بسبب إهلاكه للمدينة. وهذا يعني أنه، بغضّ النظر عمّا إذا كان الله سوف يُهلِك المدينة أم لا، وبغضّ النظر عن عدد الأبرار في المدينة، كانت هذه المدينة الخاطئة في نظر الله ملعونة ومقيتة ويجب إهلاكها وإخفائها من عينيّ الله، في حين ينبغي الحفاظ على الأبرار. بغضّ النظر عن العصر، وبغضّ النظر عن مرحلة تطوّر الجنس البشريّ، لا يتغيّر موقف الله: إنه يكره الشرّ، ويعبأ بالذين هم أبرار في نظره. هذا الموقف الواضح من الله هو أيضًا الإعلان الحقيقيّ عن جوهر الله. لم يعد الله يتردّد بسبب وجود بار واحد فقط في المدينة. كانت النتيجة النهائيّة هي دمار سدوم حتمًا. ماذا ترون في هذا؟ في ذلك العصر، لم يكن الله ليُهلِك مدينة إذا كان فيها خمسون بارًا، ولا إذا كان فيها عشرة، ممّا يعني أن الله سوف يُقرّر أن يغفر للجنس البشريّ ويسامحه أو يُؤدّي عمل الإرشاد بسبب عددٍ قليل من الناس القادرين على اتقائه وعبادته. يولي الله قدرًا هائلًا من الأهمّيّة لأعمال الإنسان البارة، وبأولئك القادرين على عبادته، وبأولئك القادرين على فعل الخير أمامه.

منذ الأزمنة الأولى وحتّى اليوم، هل قرأتم في الكتاب المُقدّس عن أن الله ينقل الحقّ أو يتحدّث عن طريق الله إلى أيّ شخصٍ؟ كلا. كان كلام الله للإنسان الذي نقرأه يُخبِر الناس بما يجب أن يفعلوه وحسب. تحرّك البعض وأطاعه، والبعض لم يطيعوه؛ البعض آمنوا والبعض لم يؤمنوا. هذا كل ما في الأمر. وهكذا، فإن الأبرار في ذلك الزمان – أي أولئك الذين كانوا أبرارًا في نظر الله – كانوا هم مَنْ يسمعون كلمات الله ويتبعون أوامره. كانوا خُدامًا يُنفّذون كلام الله بين البشر. هل يمكن أن نُسمّي أولئك الناس بأنهم مَنْ يعرفون الله؟ هل يمكن أن نُسمّيهم أشخاصًا قد كمّلهم الله؟ كلا، لا يمكننا أن ندعوهم هكذا. ومن ثمَّ، وبغضّ النظر عن عددهم، في نظر الله، هل كان هؤلاء الأبرار يستحقّون تسميتهم بأنهم مُقرّبون عند الله؟ هل يمكن تسميتهم بأنهم شهود لله؟ كلا بالتأكيد! لم يكونوا بالتأكيد يستحقّون تسميتهم بأنهم مُقرّبون عند الله أو شهود لله. ماذا أطلق الله على هؤلاء الناس إذًا؟ في العهد القديم من الكتاب المُقدّس، توجد العديد من الأمثلة التي يُطلِق فيها الله على كل واحدٍ منهم اسم "عبدي". وهذا يعني، في ذلك الوقت، أن هؤلاء الناس الأبرار كانوا في نظر الله عبيدًا لله، أي أنهم كانوا يخدمونه على الأرض. وكيف فكّر الله في هذه التسمية؟ لماذا دعاهم هكذا؟ هل لدى الله معايير في قلبه للتسميات التي يطلقها على الناس؟ بالتأكيد، الله لديه معايير، بغضّ النظر عمّا إذا كان يدعو الناس أبرارًا أو كاملين أو مستقيمين أو عبيدًا. عندما يدعو شخصًا ما بأنه عبده، فهو يؤمن إيمانًا راسخًا بأن هذا الشخص قادرٌ على استقبال رسله واتّباع وصاياه، ويستطيع تنفيذ ما يوصي به الرسل. ماذا يُنفّذ هذا الشخص؟ إنه يُنفّذ ما يوصي الله الإنسان بفعله وتنفيذه على الأرض. في ذلك الوقت، هل يمكن تسمية ما كان الله يطلب من الإنسان عمله وتنفيذه على الأرض بأنه طريق الله؟ كلا، لا يمكن. لأن الله في ذلك الوقت لم يكن يطلب من الإنسان سوى أن يعمل بعض الأشياء البسيطة. كان يُصدِر بعض الوصايا البسيطة التي تقول للإنسان بأن يفعل هذا أو ذاك، ولا شيء أكثر من ذلك. كان الله يعمل وفق خطّته، لأنه في ذلك الوقت لم تتوفر الكثير من الشروط ولم يكن الوقت قد حان بعد، وكان من الصعب على البشريّة أن تتحمّل طريق الله، وهكذا لم يكن طريق الله قد خرج للعلن بعد من قلب الله. اعتبر الله الناس الأبرار الذين تكلّم عنهم، والذين نراهم هنا – سواء كانوا ثلاثين أو عشرين – خُدّامًا له. عندما جاء رسل الله إلى هؤلاء الخُدّام، استطاعوا استقبالهم واتّباع وصاياهم والتصرّف وفقًا لكلماتهم. كان هذا بالضبط ما يجب على أولئك الذين كانوا خُدَّامًا عمله وتحقيقه في نظر الله. الله حكيمٌ في تسمياته للناس. دعاهم خُدّامَه – ليس لأنهم كانوا كما أنتم عليه اليوم: أي ليس لأنهم سمعوا كثيرًا من الوعظ، وعرفوا ما كان الله سيفعله، وفهموا كثيرًا من مشيئة الله، واستوعبوا خطة تدبيره – وإنّما لأنّهم كانوا صادقين في إنسانيتهم، وقادرين على الامتثال لكلام الله. فعندما أوصاهم الله، استطاعوا وضع ما كانوا يفعلونه جانبًا وتنفيذ ما أوصى به الله. وهكذا، يرى الله أن الطبقة الأخرى من المعنى المتضمّن في لقب خادم هي أنهم تعاونوا مع عمله على الأرض، ومع أنهم لم يكونوا رسلًا لله، إلا أنهم كانوا المُنفّذين والمُتمّمين لكلمات الله على الأرض. ترون، إذًا، أن هؤلاء الخُدّام أو الأبرار كانت لهم مكانةٌ كبيرة في قلب الله. كان العمل الذي سيبدأه الله على الأرض لا يمكن إتمامه دون أن يتعاون معه أشخاصٌ، وكان الدور الذي أدّاه خُدّام الله لا يمكن أن يُؤدّيه رسل الله. كل مهمّةٍ أوصى بها الله هؤلاء الخُدّام كانت تحمل أهمّيّة كبيرة له، وهكذا لم يستطع أن يخسرهم. بدون تعاون هؤلاء الخُدّام مع الله، لوصل عمله بين البشر إلى طريقٍ مسدود، ولترتب على ذلك أن ذهبت خطّة تدبير الله وآماله سدى.

الله كثير المراحم تجاه من يهتمّ بهم، وشديد الغضب على من يمقتهم ويرفضهم

في رواية الكتاب المُقدّس، هل وُجد عشرة خُدّامٍ لله في سدوم؟ كلا، لم يُوجد! هل كانت المدينة تستحق أن يصفح عنها الله؟ لم يستقبل رسل الله سوى شخص واحد في المدينة – وهو لوط. ومعنى ذلك أنه لم يُوجد سوى خادم واحد في المدينة، ومن ثمَّ لم يكن لدى الله خيار سوى إنقاذ لوط وإهلاك مدينة سدوم. قد تبدو الحوارات الواردة آنفًا بين إبراهيم والله بسيطة، لكنها تُوضّح شيئًا عميقًا جدًّا: تُوجد مبادئ لأفعال الله، وقبل أن يتّخذ الله القرار يقضي وقتًا طويلاً في المراقبة والمشاورة، وحتمًا لن يتّخذ أيّ قراراتٍ أو يتوصّل إلى أيّة استنتاجات قبل الوقت المناسب. تُبيّن لنا الحوارات بين إبراهيم والله أن قرار الله بإهلاك سدوم لم يكن قرارًا خاطئًا بأيّة درجةٍ، لأن الله كان يعلم بالفعل أنه لم يُوجد في المدينة أربعون بارًا أو ثلاثون أو عشرون. ولم يُوجد عشرة حتّى. كان الشخص الوحيد البار في المدينة هو لوط. كان الله يلاحظ كل ما يحدث في سدوم وملابساته، وكان على درايةٍ كاملة بها. ومن ثمَّ، لم يكن ممكنًا أن يكون قراره خاطئًا. على النقيض من ذلك، بالمقارنة مع قدرة الله، فإن الإنسان متبلد الحسّ للغاية وأحمق وجاهل وقصير النظر. هذا ما نراه في الحوارات بين إبراهيم والله. ظلّ الله يُظهِر شخصيّته من البداية حتّى اليوم. وهنا، بالمثل، تُوجد شخصيّة الله التي يجب أن نراها. الأرقام بسيطة؛ فهي لا تُبيّن أيّ شيءٍ، ولكن يوجد هنا تعبيرٌ مهمّ جدًّا عن شخصيّة الله. لن يُهلِك الله المدينة من أجل خمسين بارًا. هل هذا يرجع لرحمة الله؟ هل يرجع لمحبّته وتسامحه؟ هل سبق ورأيتم هذا الجانب من شخصيّة الله؟ حتّى إذا لم يُوجد سوى عشرة أبرارٍ، لما كان الله قد أهلك المدينة من أجل هؤلاء الأبرار العشرة. هل هذا تسامح الله ومحبّته أم لا؟ بسبب رحمة الله وتسامحه واهتمامه تجاه هؤلاء الأبرار، لما أهلك المدينة. هذا هو تسامح الله. في النهاية، ما النتيجة التي نراها؟ عندما قال إبراهيم: "عَسَى أَنْ يُوجَدَ هُنَاكَ عَشْرَةٌ"، قال الله: "لَا أُهْلِكُ". وبعد ذلك صمت إبراهيم، لأن سدوم لم يكن بها الأبرار العشرة الذين ذكرهم فلم يعد لديه ما يقوله، وفي ذلك الوقت فهم سبب قرار الله بإهلاك سدوم. ما شخصيّة الله التي ترونها في هذا؟ ما نوع القرار الذي اتّخذه الله؟ حل الله هذا الأمر بأنه إذا لم يكن في هذه المدينة عشرة أبرارٍ فلن يسمح الله بوجودها وسيهلكها حتمًا. أليس هذا غضب الله؟ هل يُمثّل هذا الغضب شخصيّة الله؟ هل هذه الشخصيّة هي الإعلان عن جوهر الله المُقدّس؟ هل هي الإعلان عن جوهر الله البار، الذي ينبغي على الإنسان عدم الإساءة إليه؟ بعد تأكيد الله على أنه لم يُوجد عشرة أبرارٍ في سدوم، أصرّ الله على إهلاك المدينة ومعاقبة شعبها بشدّةٍ لأنهم قاوموا الله، ولأنهم كانوا دنسين وفاسدين.

لماذا حلّلنا هذه المقاطع بهذه الطريقة؟ لأن هذه العبارات البسيطة القليلة تُقدّم تعبيرًا كاملًا عن شخصيّة الله برحمته الوفيرة وغضبه الشديد. في الوقت نفسه الذي يُقدّر فيه الله الأبرار مترائفاً بهم ومسامحًا إياهم ومهتمًّا بهم، كَنَّ الله في قلبه كراهيةً مقيتة تجاه جميع الفاسدين الذين كانوا في سدوم. هل كان هذا رحمةً وفيرة وغضبًا شديدًا، أم لم يكن؟ بأيّة وسيلةٍ أهلك الله المدينة؟ بالنار. ولماذا أهلكها بالنار؟ عندما ترى شيئًا يحترق بالنار، أو عندما تكون على وشك إحراق شيءٍ، ماذا تكون مشاعرك تجاهه؟ لماذا تريد إحراقه؟ هل تشعر بأنك لم تعد بحاجةٍ إليه، وأنك لم تعد ترغب في النظر إليه؟ هل تريد التخلّي عنه؟ إن استخدام الله للنار يعني التخلّي والكراهية، وأنه لم يعد يرغب في رؤية سدوم. كانت هذه هي العاطفة التي جعلت الله يُهلِك سدوم بالنار. يُمثّل استخدام النار مدى غضب الله. إن رحمة الله وتسامحه موجودان بالفعل، ولكن قداسة الله وبرّه عندما يُعلِن غضبه يُظهِران للإنسان جانب الله الذي لا يحتمل أيّة إساءةٍ. عندما يكون الإنسان قادرًا تمامًا على طاعة وصايا الله والتصرّف وفقًا لمتطلّباته، يكون الله كثير المراحم تجاه الإنسان. وعندما يكون الإنسان مملوءًا بالفساد والكراهية والعداء ضده، يكون الله غاضبًا جدًّا. وإلى أيّ مدى يكون غضبه شديدًا؟ سوف يستمرُّ غضبه إلى أن تختفي من وجه الله مقاومة الإنسان وأعماله الشريرة، وحتّى لا تكون أمام عينيه. عندها فقط سيختفي غضب الله. وهذا يعني أنه بغضّ النظر عن طبيعة الشخص، إذا ابتعد قلبه بعيدًا عن الله وحاد عن الله ولم يرجع قط، فبغضّ النظر عن الكيفيّة التي يريد بها عبادة الله واتّباعه وطاعته في جسده أو في فكره، فيما يتعلّق بجميع مظاهره أو من حيث رغباته الذاتيّة، سوف يُعلِن الله عن غضبه دون توقّفٍ. وعندما يُعلِن الله غضبه الشديد، بعد أن يكون قد منح الإنسان فرصًا كثيرة، فبمُجرّد إعلان الغضب لن توجد طريقةٌ للتراجع عن غضبه، ولن يكون مطلقًأ رحيمًا أو متسامحًا مع مثل هذا الإنسان مرةً أخرى. هذا جانبٌ من جوانب شخصيّة الله لا يحتمل أيّة إساءةٍ. هنا، يبدو من الطبيعيّ للناس أن يُهلِك الله مدينة، لأنه في نظر الله لا يمكن لمدينةٍ ملآنة بالخطيّة أن توجد وتستمرّ في البقاء، وكان من المنطقيّ أن يُهلِكها الله. ولكن في الأحداث التي وقعت قبل إهلاك سدوم وبعده نرى شخصيّة الله بأكملها. إنه متسامحٌ ورحوم تجاه الأشياء اللطيفة والجميلة والجيّدة، ولكنه شديد الغضب تجاه الأشياء الشريرة والخاطئة والفاسدة، وكأن غضبه لا يتوقّف. هذان هما الجانبان الرئيسيّان البارزان في شخصيّة الله، إضافة إلى أنهما الجانبان اللذان كشف عنهما الله من البداية إلى النهاية: الرحمة الوفيرة والغضب الشديد. لقد اختبر معظمكم ملمحًا من ملامح رحمة الله، ولكن قليلين جدًّا منكم هم مَنْ قدّروا غضب الله. يمكن رؤية رحمه الله وإحسانه في كل شخصٍ؛ أيّ أن الله رحيمٌ للغاية تجاه كل شخصٍ. ومع ذلك فإنه من النادر جدًّا – أو يمكن القول إنه لم يحدث قط – أن يكون الله قد غضب بشدّةٍ تجاه أيّ فردٍ أو أيّة مجموعةٍ من الناس بينكم. اِسترخوا! عاجلاً أو آجلًا سوف يعاين كل شخصٍ غضب الله ويختبره، ولكن الوقت لم يحن بعد. ولماذا هذا؟ لأنه عندما يكون الله غاضبًا دومًا تجاه شخصٍ ما، أي عندما يصبّ جام غضبه عليه، فإن هذا يعني أنه قد مرّ زمانٌ طويل منذ أن مقت الله ذلك الشخص ورفضه، وأنه يحتقر وجوده ولا يحتمل وجوده؛ وبمُجرّد أن يأتي غضبه عليه، فسوف يختفي. واليوم، لم يبلغ عمل الله بعد هذه النقطة. لن يستطيع أيٌ منكم احتمال غضب الله عندما يشتدّ غضبه. ترون إذًا أن الله في هذا الوقت وافر الرحمة تجاهكم جميعًا، وأنكم لم تعاينوا غضبه الشديد. إذا وُجد من الناس من لم يقتنعوا بعد، فبإمكانكم أن تطلبوا أن ينصبّ غضب الله عليكم حتّى تختبروا ما إذا كان غضب الله وشخصيّته التي لا تطيق الإساءة من الإنسان موجودَيْن بالفعل أم لا. هل تجرؤون على ذلك؟

شعب الأيام الأخيرة لا يرى غضب الله إلا في كلماته، ولكنه لا يختبر حقًّا غضب الله

هل جانبا شخصيّة الله في هذه المقاطع الكتابيّة جديريْن بالمشاركة؟ بعد أن سمعتم هذه القصة، هل لديكم فهمٌ مُتجدّد لله؟ أيّ نوعٍ من الفهم لديكم؟ يمكن القول إنه منذ وقت الخلق وحتّى اليوم، لم تتمتّع أيّة مجموعةٍ بمقدار نعمة الله أو رحمته وإحسانه مثل هذه المجموعة الأخيرة. مع أن الله، في المرحلة الأخيرة، قد أدّى عمل الدينونة والتوبيخ، وأدّى عمله بالجلال والغضب، إلا أنه في معظم الأوقات لا يستخدم سوى الكلمات لإنجاز عمله. إنه يستخدم كلمات للتعليم والسقي والإعالة والتغذية. وفي الوقت نفسه، ظلّ غضب الله مختبئًا دائمًا، وبصرف النظر عن اختبار شخصيّة الله الغاضبة في كلماته، لم يختبر إلا عدد قليل من الناس غضبه اختبارًا شخصيًّا. وهذا يعني أنه أثناء عمل الله في الدينونة والتوبيخ، مع أن الغضب المُعلن في كلمات الله يسمح للناس باختبار جلال الله وعدم تهاونه مع الإساءة، فإن هذا الغضب لا يتجاوز كلماته. وهذا يعني أن الله يستخدم الكلمات لانتهار الإنسان، وكشفه، ودينونته، وتوبيخه، بل وحتّى إدانته، لكن الله لم يغضب بعد بشدّةٍ من الإنسان، ولم يكد حتى أن يطلق العنان لغضبه على الإنسان إلا بكلماته. وهكذا، فإن رحمة الله وإحسانه اللذيْن اختبرهما الإنسان في هذا العصر هما الإعلان عن شخصيّة الله الحقيقيّة، في حين أن غضب الله الذي يختبره الإنسان ما هو إلا مُجرّد تأثير نبرة أقواله وحسّها. يأخذ كثيرون من الناس هذا التأثير على نحوٍ خاطئ على أنه الاختبار الحقيقيّ والمعرفة الحقيقيّة لغضب الله. ونتيجةً لذلك، يؤمن معظم الناس أنهم رأوا رحمة الله وإحسانه في كلماته، وأنهم عاينوا أيضًا عدم تساهل الله مع إساءة الإنسان، بل إن معظمهم وصل لمرحلة تقدير رحمة الله وتسامحه تجاه الإنسان. ولكن بغضّ النظر عن مدى سوء سلوك الإنسان، أو مدى فساد شخصيّته، كان الله يتحمّل دائمًا. وهدفه من تحمّله هو انتظار الكلمات التي تكلّم بها، والجهود التي بذلها، والثمن الذي دفعه لتحقيق تأثيرٍ في أولئك الذين يود ربحهم. إن انتظار نتيجة مثل هذه يستغرق وقتًا، ويتطلّب إنشاء بيئاتٍ مختلفة للإنسان، بالطريقة نفسها التي لا يصل بها الأشخاص مرحلة البلوغ بمُجرّد ولادتهم؛ فهذا يستغرق ثمانية عشر أو تسعة عشر عامًا، ويحتاج بعض الأشخاص إلى عشرين أو ثلاثين عامًا قبل أن يصلوا إلى مرحلة البلوغ الحقيقيّة. ينتظر الله استكمال هذه العمليّة، ومجيء مثل هذا الوقت، والوصول إلى هذه النتيجة. وطوال وقت الانتظار يكون الله وافر الرحمات. ومع ذلك، خلال فترة عمل الله، يُجازى عددٌ قليل للغاية من الناس، ويُعاقَب بعضهم بسبب معارضتهم الشديدة لله. مثل هذه الأمثلة دليلٌ أكبر على شخصيّة الله التي لا تتهاون مع إساءة الإنسان، وتُؤكّد تمامًا الوجود الحقيقيّ لتسامح الله وتحملّه تجاه المختارين. بالطبع، في هذه الأمثلة النمطيّة، لا يُؤثّر الكشف عن جزءٍ من شخصيّة الله داخل هؤلاء الناس في خطّة تدبير الله الشاملة. في الواقع، في هذه المرحلة النهائيّة من عمل الله، تحمّل الله طوال فترة انتظاره، ودفع تحمّله وحياته ثمنًا من أجل خلاص من يتبعونه. هل ترون هذا؟ الله لا يُحبِط خطّته بلا سببٍ. يمكنه أن يُطلِق غضبه، ويمكن أن يكون رحومًا أيضًا؛ هذا هو الإعلان عن الجزأين الرئيسيّين من شخصيّة الله. هل هذا واضحٌ جدًّا أم لا؟ أي أنه عندما يتعلّق الأمر بالله، وبالصواب والخطأ، وبالعدل والظلم، وبالإيجابيّ والسلبيّ – فهذا كله يظهر بوضوحٍ للإنسان. أمّا ما سوف يفعله، وما يحبّه، وما يكرهه فيمكن أن ينعكس كله مباشرةً في شخصيّته. يمكن أن تكون مثل هذه الأمور أيضًا واضحة جدًّا وجليّة في عمل الله، وهي ليست مبهمة أو عامة، بل إنها تسمح لجميع الناس بأن ينظروا شخصيّة الله وما لديه وما هو عليه بطريقةٍ ملموسة وصحيحة وعمليّة على نحو خاص. هذا هو الإله الحقيقيّ نفسه.

شخصيّة الله لم تُخفَ قط عن الإنسان – لكن قلب الإنسان ضلّ عن الله

إذا لم أشارك هذه الأمور، فلن يتمكّن أيّ واحدٍ منكم من رؤية شخصيّة الله الحقيقيّة في قصص الكتاب المُقدّس. هذه حقيقة. والسبب في ذلك هو أنه مع أن هذه القصص الكتابيّة سجلّت بعض الأشياء التي فعلها الله، إلا أن الله لم يتكلّم سوى بالقليل من الكلمات، ولم يُقدّم شخصيّته مباشرةً أو يكشف عن إرادته بوضوحٍ للإنسان. لم تعتبر الأجيال اللاحقة هذه الروايات أكثر من كونها قصصًا، ولذا يبدو للناس أن الله يُخفي نفسه عن الإنسان وأنه ليس شخص الله هو المخفيّ عن الإنسان، بل شخصيّته وإرادته. بعد مشاركتي اليوم، هل ما زلتم تشعرون بأن الله مخفيٌ بالكامل عن الإنسان؟ هل ما زلتم تعتقدون أن شخصيّة الله مخفيّة عن الإنسان؟

منذ زمن الخلق، كانت شخصيّة الله متوافقة مع عمله. لم تُخفَ قط عن الإنسان، ولكنها أُعلنت تمامًا وانكشفت للإنسان. ولكن مع مرور الوقت، بات قلب الإنسان أكثر بعدًا عن الله، ومع ازدياد فساد الإنسان، تزايد الانفصال بين الإنسان والله. اختفى الإنسان من أمام عينيّ الله ببطءٍ ولكن بتأكيدٍ. أصبح الإنسان غير قادرٍ على "رؤية" الله، وهذا ما حال بينه وبين الحصول على أيّة "أخبارٍ" عن الله. ومن ثمَّ، فإنه لا يعرف ما إذا كان الله موجودًا، بل إنه يتمادى إلى حدّ إنكار وجود الله تمامًا. وعليه، فإن عدم فهم الإنسان لشخصيّة الله وما لديه وماهيته لا يرجع لأن الله مخفيّ عن الإنسان، بل لأن قلب الإنسان ابتعد عن الله. مع أن الإنسان يؤمن بالله، إلا أن قلب الإنسان يخلو من الله، وهو جاهلٌ بكيفيّة محبّة الله، ولا يريد أن يحبّ الله، لأن قلبه لا يقترب أبدًا من الله، كما أنه دائمًا ما يتجنّب الله. ونتيجةً لذلك، فإن قلب الإنسان بعيدٌ عن الله. أين قلبه إذًا؟ في الواقع، لم يذهب قلب الإنسان إلى أيّ مكانٍ: فبدلًا من أن يُسلّم الإنسان قلبه لله أو يكشفه لله، احتفظ به لنفسه. وذلك بالرغم من أن بعض الناس يصلّون في كثيرٍ من الأحيان إلى الله قائلين: "يا الله، انظر إلى قلبي – أنت تعرف كل ما أفكّر به"، والبعض يُقسِمون حتّى ويسمحون لله أن ينظر إلى قلوبهم، وقد يتعرّضون للعقاب إذا خالفوا قسمهم. مع أن الإنسان يسمح لله بأن ينظر إلى داخل قلبه، فإن هذا لا يعني أنه قادرٌ على طاعة تنظيمات الله وترتيباته، ولا أنه ترك مصيره وتطلعاته وكل ما له لتحكّم الله. وهكذا، بغضّ النظر عن القسم الذي تُقدّمه لله أو ما تعلنه أمامه، فإن قلبك في نظر الله لا يزال مغلقًا أمامه، لأنك تسمح لله بأن ينظر قلبك فقط ولكنك لا تسمح له بالتحكّم فيه. وهذا يعني أنك لم تُسلّم الله قلبك مطلقًا، ولا تتحدّث سوى بكلماتٍ لطيفة كي يسمعها الله؛ وفي الوقت نفسه تخفي نواياك المخادعة المختلفة، مع مكائدك ومُخطّطاتك وخططك، وتتشبّث بآمالك ومصيرك بين يديك، خائفًا على الدوام من أن يُبعدها الله عنك. وهكذا، فإن الله لا ينظر صدق الإنسان تجاهه أبدًا. ومع أن الله يراقب أعماق قلب الإنسان، ويمكنه أن يرى ما يفكّر فيه الإنسان وما يريد أن يفعله في قلبه، ويمكنه أن يرى ما يحتفظ به داخل قلبه، إلا أن قلب الإنسان لا ينتمي إلى الله، فالإنسان لم يُسلّمه ليكون تحت تحكّم الله. وهذا يعني أن الله له الحقّ في الاطلاع، ولكن ليس له الحقّ في التحكّم. في الوعي الذاتيّ للإنسان، لا يريد الإنسان ولا ينوي أن يسلّم نفسه لترتيب الله. فالإنسان لم يغلق نفسه عن الله وحسب، بل يُوجد أناسٌ يُفكّرون حتّى في طرقٍ لتغطية قلوبهم، باستخدام الكلام الناعم والإطراء لخلق انطباعٍ خاطئ وكسب ثقة الله، وإخفاء وجههم الحقيقيّ بعيدًا عن أنظار الله. هدفهم من عدم السماح لله بأن يرى هو عدم السماح له بأن يدرك حقيقتهم فعلًا. إنهم لا يريدون تسليم قلوبهم لله، ولكن الاحتفاظ بها لأنفسهم. والمعنى الضمنيّ لهذا هو أن ما يفعله الإنسان وما يريده خطّط له الإنسان وحسبه وقرّره بنفسه؛ إنه لا يتطلّب مشاركة الله أو تدخّله، ولا يحتاج إلى تنظيمات الله وترتيباته. وهكذا، سواء فيما يتعلّق بوصايا الله أو تكليفه أو المتطلّبات التي يطلبها الله من الإنسان، تستند قرارات الإنسان إلى نواياه ومصالحه وحالته وظروفه الخاصة في ذلك الوقت. أن يستخدم الإنسان دائمًا المعرفة والأفكار التي يعرفها وعقله للحكم واختيار المسار الذي يجب أن يتّخذه، ولا يسمح بتدخّل الله أو تحكّمه. هذا هو قلب الإنسان الذي يراه الله.

منذ البداية وحتّى اليوم، كان الإنسان وحده قادرًا على التحدّث مع الله. وهذا يعني أنه من بين جميع الكائنات الحيّة ومخلوقات الله، لم يتمكّن سوى الإنسان من التحدّث مع الله. للإنسان آذانٌ تُمكّنه من السمع، وعيونٌ تُمكّنه من الرؤية، ولديه لغته وأفكاره الخاصة وإرادته الحرّة. إنه يمتلك كل ما هو مطلوبٌ لسماع ما يقوله الله وفهم إرادته وقبول تكليفه، وهكذا يمنح الله جميع أمانيه للإنسان، ويريد أن يجعل الإنسان رفيقًا منسجمًا معه ويمكنه السير معه. منذ بداية تدبير الله، كان الله ينتظر من الإنسان أن يُسلّم له قلبه، وأن يدعوه ليطهِّره ويجهِّزه، وأن يكون مُرضيًا أمامه ومحبوبًا لديه، وأن يتّقيه ويحيد عن الشرّ. لطالما تطلّع الله إلى هذه النتيجة وانتظرها. هل يُوجد مثل هؤلاء الأشخاص في قصص الكتاب المُقدّس؟ أي، هل يُوجد أيّ أشخاصٍ في الكتاب المقُدّس يمكنهم تسليم قلوبهم لله؟ هل تُوجد أيّة واقعة سابقةٍ قبل هذا العصر؟ دعونا نواصل اليوم قراءة قصص الكتاب المُقدّس ونلقي نظرةً على ما إذا كان ما فعله هذا الشخص – أيُّوب – له أيّة صلةٍ بموضوع "تسليم قلبك لله" الذي نتحدّث عنه اليوم. دعونا نرى ما إذا كان أيُّوب مُرضيًا لله ومحبوبًا لديه.

ما انطباعكم عن أيُّوب؟ نقلًا عن النصّ الأصليّ، يقول بعض الناس إن أيُّوب كان يَتَّقِي ٱللهَ وَيَحِيدُ عَنِ ٱلشَّرِّ. "يَتَّقِي ٱللهَ وَيَحِيدُ عَنِ ٱلشَّرِّ": هذا هو تقييم الله لأيُّوب. إذا استخدمتم كلماتكم الخاصة، كيف ستصفون أيُّوب؟ يقول بعض الناس إن أيُّوب كان رجلًا صالحًا وراشدًا؛ ويقول البعض إنه كان لديه إيمانٌ حقيقيّ بالله. يقول البعض إن أيُّوب كان رجلًا صالحًا وخيّرًا. لقد رأيتم إيمان أيُّوب، وهذا يعني أنه في قلوبكم تولون إيمان أيُّوب أهمّيّة كبيرة وتحسدونه عليه. دعونا اليوم إذًا نلقي نظرةً على ما كان يمتلكه أيُّوب ويسّر الله. وبعد ذلك، دعونا نقرأ الآيات الكتابيّة أدناه.

ثالثًا. أيُّوب

1. تقييم الله والكتاب المُقدّس لأيُّوب

(أيوب 1: 1) "كَانَ رَجُلٌ فِي أَرْضِ عَوْصَ ٱسْمُهُ أَيُّوبُ. وَكَانَ هَذَا ٱلرَّجُلُ كَامِلًا وَمُسْتَقِيمًا، يَتَّقِي ٱللهَ وَيَحِيدُ عَنِ ٱلشَّرِّ".

(أيوب 1: 5) "وَكَانَ لَمَّا دَارَتْ أَيَّامُ ٱلْوَلِيمَةِ، أَنَّ أَيُّوبَ أَرْسَلَ فَقَدَّسَهُمْ، وَبَكَّرَ فِي ٱلْغَدِ وَأَصْعَدَ مُحْرَقَاتٍ عَلَى عَدَدِهِمْ كُلِّهِمْ، لِأَنَّ أَيُّوبَ قَالَ: "رُبَّمَا أَخْطَأَ بَنِيَّ وَجَدَّفُوا عَلَى ٱللهِ فِي قُلُوبِهِمْ". هَكَذَا كَانَ أَيُّوب يَفْعَلُ كُلَّ ٱلأَيَّامِ".

(أيوب 1: 8) "فَقَالَ يَهْوَه لِلشَّيْطَانِ: "هَلْ جَعَلْتَ قَلْبَكَ عَلَى عَبْدِي أَيُّوبَ؟ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِثْلُهُ فِي ٱلْأَرْضِ. رَجُلٌ كَامِلٌ وَمُسْتَقِيمٌ، يَتَّقِي ٱللهَ وَيَحِيدُ عَنِ ٱلشَّرِّ".

ما النقطة الأساسيّة التي ترونها في هذه الفقرات؟ تتعلّق هذه المقتطفات الثلاثة المختصرة من الكتاب المُقدّس كلها بأيُّوب. ومع أنها قصيرة، إلا أنها تكشف بوضوحٍ نوع شخصيّته. من خلال وصفها لسلوك أيُّوب اليوميّ وتصرّفه، فإنها تُخبِر الجميع أن تقييم الله لأيُّوب لم يكن بلا أساسٍ بل كان قائم على أساس صحيح. تُخبِرنا أنه سواء كان تقييم الإنسان لأيُّوب (أيوب 1: 1) أو تقييم الله لأيُّوب (أيوب 1: 8)، فكلاهما نتاجٌ لأفعال أيُّوب أمام الله والإنسان (أيوب 1: 5).

أولًا، دعونا نقرأ النص الأول: "كَانَ رَجُلٌ فِي أَرْضِ عَوْصَ ٱسْمُهُ أَيُّوبُ. وَكَانَ هَذَا ٱلرَّجُلُ كَامِلًا وَمُسْتَقِيمًا، يَتَّقِي ٱللهَ وَيَحِيدُ عَنِ ٱلشَّرِّ". هذه الآية هي التقييم الأول لأيُّوب في الكتاب المُقدّس، وهي تقييم الكاتب لأيُّوب. وبطبيعة الحال، فإنها تُمثّل أيضًا تقييم الإنسان لأيُّوب: "وَكَانَ هَذَا ٱلرَّجُلُ كَامِلًا وَمُسْتَقِيمًا، يَتَّقِي ٱللهَ وَيَحِيدُ عَنِ ٱلشَّرِّ". دعونا بعد ذلك نقرأ تقييم الله لأيُّوب: "لِأَنَّهُ لَيْسَ مِثْلُهُ فِي ٱلْأَرْضِ. رَجُلٌ كَامِلٌ وَمُسْتَقِيمٌ، يَتَّقِي ٱللهَ وَيَحِيدُ عَنِ ٱلشَّرِّ". من بين التقييمين، جاء تقييمٌ من الإنسان وجاء التقييم الآخر من الله. هذان التقييمان لهما المحتوى نفسه. يمكن أن نرى، إذًا، أن سلوك أيُّوب وتصرّفه كانا معروفين للإنسان، كما كانا موضع مدح من الله. وهذا يعني أن سلوك أيُّوب أمام الإنسان وسلوكه أمام الله هما السلوك نفسه. لقد وضع سلوكه ودافعه أمام الله في جميع الأوقات، بحيث يمكن أن يلاحظهما الله، كما أنه كان يتّقي الله ويحيد عن الشرّ. وهكذا، في نظر الله، لم يكن سوى أيُّوب من بين الناس على وجه الأرض مَنْ كان كاملًا ومستقيمًا ومَنْ كان يتّقي الله ويحيد عن الشرّ.

مظاهر مُحدّدة من اتّقاء أيُّوب الله وحيدانه عن الشرّ في حياته اليوميّة

دعونا بعد ذلك نلقي نظرةً على مظاهر مُحدّدة لاتّقاء أيُّوب الله وحيدانه عن الشرّ. بالإضافة إلى المقاطع السابقة واللاحقة، دعونا أيضًا نقرأ أيُّوب 1: 5، وهي أحد المظاهر المُحدّدة لاتّقاء أيُّوب الله وحيدانه عن الشرّ. إنها تتعلّق بكيفيّة اتّقاء أيُّوب الله وحيدانه عن الشرّ في حياته اليوميّة؛ وأكثر هذه الأمور وضوحًا أنه لم يكتفِ بعمل ما كان يجب عمله نتيجة اتّقاءه الله وحيدانه عن الشرّ، بل إنه كان يُصعِد بانتظامٍ محرقات أمام الله عن أبنائه. كان يخشى من أن يكون أبناؤه "أَخْطَأَ وَجَدَّفُوا عَلَى ٱللهِ فِي قُلُوبِهِمْ" في أيام الوليمة. وكيف ظهر هذا الخوف عند أيُّوب؟ يُقدّم النصّ الأصليّ الرواية التالية: "وَكَانَ لَمَّا دَارَتْ أَيَّامُ ٱلْوَلِيمَةِ، أَنَّ أَيُّوبَ أَرْسَلَ فَقَدَّسَهُمْ، وَبَكَّرَ فِي ٱلْغَدِ وَأَصْعَدَ مُحْرَقَاتٍ عَلَى عَدَدِهِمْ كُلِّهِمْ". يُبيّن لنا تصرّف أيُّوب أن اتّقاءه الله، بدلاً من كونه متجلّيًا في سلوكه الخارجيّ، كان نابعًا من داخل قلبه، واتّقاء الله هذا يمكن إيجاده في كل جانبٍ من جوانب حياته اليوميّة، وفي جميع الأوقات، لأنه لم يكن يحيد عن الشرّ فحسب، بل كان كثيرًا ما يُصعِد محرقات عن أبنائه. وهذا يعني أن أيُّوب لم يكن خائفًا خوفًا شديدًا من الخطيّة أمام الله والتجديف على الله في قلبه، ولكنه كان مهمومًا أيضًا من احتمال أن يكون أبناؤه قد ارتكبوا خطيئة أمام الله وتنكروا له في قلوبهم. يمكن أن نرى من هذا أن حقيقة اتّقاء أيُّوب الله تصمد أمام الفحص الدقيق، وأبعد من شكّ أيّ إنسانٍ. هل كان يفعل ذلك في قليلٍ أم كثيرٍ من الأحيان؟ تقول الجملة الأخيرة من النصّ: "هَكَذَا كَانَ أَيُّوب يَفْعَلُ كُلَّ ٱلأَيَّامِ". هذه الكلمات تعني أن أيُّوب لم يكن يذهب ويتفقد أبناءه من حينٍ لآخر، أو عندما كان يروق له الأمر، ولم يكن يعترف لله من خلال الصلاة. بدلًا من ذلك، كان يُرسِل أبناءه بانتظامٍ لتقديسهم وتصعيد محرقات عنهم. لا يعني تعبير "كُلَّ الأَيَّامِ" هنا أنه فعل ذلك لمدة يومٍ أو يومين، أو للحظاتٍ. ولكنه يعني أن إظهار اتّقاء أيُّوب الله لم يكن مُؤقّتًا، ولم يتوقّف عند المعرفة أو الكلام المنطوق؛ بل كان طريق اتّقاءه الله وحيدانه عن الشرّ يُوجّه قلبه ويُملي عليه سلوكه، وكان، في قلبه، جذر وجوده. كان ما يعمله كل الأيام يُظهِر أنه، في قلبه، كان يخشى في كثيرٍ من الأحيان أن يكون هو نفسه قد أخطأ أمام الله، كما كان يخشى أن يخطئ يكون أبناؤه وبناته أمام الله. إنها تُمثّل مدى تطبّع قلبه بطريق اتّقاء الله والحيدان عن الشرّ. كان يفعل هذا كل الأيام لأنه، في قلبه، كان مرتعدًا وخائفًا من أن يكون قد صنع الشرّ وأخطأ أمام الله، ومن أن يكون قد حاد عن طريق الله وبذلك لم يكن بإمكانه إرضاء الله. وفي الوقت نفسه، كان مهمومًا بشأن أبنائه وبناته، خوفًا من أن يكونوا قد أخطأوا أمام الله. كان هذا هو سلوك أيُّوب الطبيعيّ في حياته اليوميّة. وهذا السلوك الطبيعيّ هو بالضبط ما يُبرهِن على أن اتّقاء أيُّوب الله وحيدانه عن الشرّ ليسا كلمات فارغة، وأن أيُّوب عاش بالفعل مثل هذا الواقع. "هَكَذَا كَانَ أَيُّوب يَفْعَلُ كُلَّ ٱلأَيَّامِ": تُخبِرنا هذه الكلمات بأفعال أيُّوب اليوميّة أمام الله. عندما كان يعمل ذلك كل الأيام، هل وصل سلوكه وقلبه أمام الله؟ أيّ هل كان الله راضيًا في كثيرٍ من الأحيان عن قلبه وسلوكه؟ وبعد ذلك، في أيّة حالةٍ وفي أيّ سياقٍ كان أيُّوب يعمل ذلك كل الأيام؟ يقول بعض الناس: "إن السبب وراء ذلك هو أن الله كان يتراءى لأيُّوب في كثيرٍ من الأحيان". ويقول البعض: "إنه كان يفعل ذلك كل الأيام لأنه كان لديه الإراداة لأن يحيد عن الشرّ". ويقول البعض: "إنه ربّما اعتقد أن ثروته لم تأتِ بسهولةٍ، وكان يعلم أن الله منحه إياها، ولذلك كان يخشى بشدّةٍ من فقدان ممتلكاته نتيجة الخطيّة أمام الله أو التجديف عليه". هل أيٌّ من هذه الادعاءات صحيحٌ؟ كلا بالطبع. لأنه في نظر الله، أكثر ما كان يقبله الله ويُقدّره في قلبه تجاه أيُّوب ليس أنه كان يفعل ذلك كل الأيام فحسب، ولكن بالأحرى سلوكه أمام الله والإنسان والشيطان عندما أُسلم للشيطان لتجربته. تُقدّم الأقسام أدناه أكثر الأدلة إقناعًا، وهو الدليل الذي يُبيّن لنا حقيقة تقييم الله لأيُّوب. وبعد ذلك، دعونا نقرأ المقاطع التالية من الكتاب المُقدّس.

2. الشيطان يُجرّب أيُّوب للمرة الأولى (سرقة ماشيته والبلوى التي تحلّ بأبنائه)

أ. الكلمات التي تكلّم بها الله

(أيوب 1: 8) "فَقَالَ يَهْوَه لِلشَّيْطَانِ: "هَلْ جَعَلْتَ قَلْبَكَ عَلَى عَبْدِي أَيُّوبَ؟ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِثْلُهُ فِي ٱلْأَرْضِ. رَجُلٌ كَامِلٌ وَمُسْتَقِيمٌ، يَتَّقِي ٱللهَ وَيَحِيدُ عَنِ ٱلشَّرِّ".

(أيوب 1: 12) "فَقَالَ يَهْوَه لِلشَّيْطَانِ: "هُوَذَا كُلُّ مَا لَهُ فِي يَدِكَ، وَإِنَّمَا إِلَيهِ لَا تَمُدَّ يَدَكَ". ثمَّ خَرَجَ ٱلشَّيْطَانُ مِنْ أَمَامِ وَجْهِ يَهْوَه".

ب. ردّ الشيطان

(أيوب 1: 9-11) "فَأَجَابَ ٱلشَّيْطَانُ يَهْوَه وَقَالَ: "هَلْ مَجَّانًا يَتَّقِي أَيُّوبُ ٱللهَ؟ أَلَيْسَ أَنَّكَ سَيَّجْتَ حَوْلَهُ وَحَوْلَ بَيْتِهِ وَحَوْلَ كُلِّ مَا لَهُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ؟ بَارَكْتَ أَعْمَالَ يَدَيْهِ فَٱنْتَشَرَتْ مَوَاشِيهِ فِي ٱلْأَرْضِ. وَلَكِنِ ٱبْسِطْ يَدَكَ ٱلْآنَ وَمَسَّ كُلَّ مَا لَهُ، فَإِنَّهُ فِي وَجْهِكَ يُجَدِّفُ عَلَيْكَ".

الله يسمح للشيطان بتجربة أيُّوب حتّى يتكمّل إيمان أيُّوب

أيوب 1: 8 هو أول تسجيل نراه في الكتاب المُقدّس للحوار بين يهوه الله والشيطان. ماذا قال الله؟ يُقدّم النصّ الأصليّ الرواية التالية: "فَقَالَ يَهْوَه لِلشَّيْطَانِ: "هَلْ جَعَلْتَ قَلْبَكَ عَلَى عَبْدِي أَيُّوبَ؟ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِثْلُهُ فِي ٱلْأَرْضِ. رَجُلٌ كَامِلٌ وَمُسْتَقِيمٌ، يَتَّقِي ٱللهَ وَيَحِيدُ عَنِ ٱلشَّرِّ". كان هذا تقييم الله لأيُّوب أمام الشيطان؛ قال الله إن أيُّوب كان رجلًا كاملًا مستقيمًا يتّقي الله ويحيد عن الشرّ. قبل هذه الكلمات بين الله والشيطان، كان الله قد قرّر أنه سيستخدم الشيطان لتجربة أيُّوب، أي أنه سوف يُسلّم أيُّوب إلى الشيطان. من ناحية، سوف يُثبِت هذا أن ملاحظة الله وتقييمه لأيُّوب كانا دقيقين وبدون أيّ خطأ، ومن شأنهما فضح الشيطان من خلال شهادة أيُّوب. ومن ناحية أخرى، سوف يُكمّل إيمان أيُّوب واتّقاءه الله. وهكذا، عندما جاء الشيطان أمام الله لم يراوغه الله. تكلّم مباشرةً وسأل الشيطان: "هَلْ جَعَلْتَ قَلْبَكَ عَلَى عَبْدِي أَيُّوبَ؟ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِثْلُهُ فِي ٱلْأَرْضِ. رَجُلٌ كَامِلٌ وَمُسْتَقِيمٌ، يَتَّقِي ٱللهَ وَيَحِيدُ عَنِ ٱلشَّرِّ". يكمن المعنى التالي في سؤال الله: عرف الله أن الشيطان قد جال جميع الأماكن، وكثيرًا ما تجسّس على أيُّوب، الذي كان خادمًا لله. غالبًا ما جرّب الشيطان أيُّوب وهاجمه، محاولًا العثور على طريقةٍ لجلب الخراب عليه لإثبات أن إيمانه بالله واتّقاءه إياه لا يمكنهما الصمود. سعى الشيطان أيضًا بسهولةٍ وراء فرصٍ لإهلاك أيُّوب لعلّه يتمرّد على الله فيستحوذ عليه من يد الله. ومع ذلك، نظر الله في قلب أيُّوب ورأى أنه كاملٌ ومستقيم، وأنه يتّقي الله ويحيد عن الشرّ. استخدم الله سؤالاً لإخبار الشيطان بأن أيُّوب كان كاملًا ومستقيمًا يتّقي الله ويحيد عن الشرّ، وأن أيُّوب لن يُجدّف أبدًا على الله ويتبع الشيطان. بعد أن سمع الشيطان تقييم الله لأيُّوب، اغتاظ غيظًا نابعًا من الإذلال، وازداد غضب الشيطان، ولم يعد يطيق صبرًا لاختطاف أيُّوب، لأن الشيطان لم يعتقد قط أن شخصًا ما يمكنه أن يكون كاملًا ومستقيمًا أو أن يتّقي الله ويحيد عن الشرّ. في الوقت نفسه، كان الشيطان يكره كمال الإنسان واستقامته، ويكره الناس الذين يتّقون الله ويحيدون عن الشرّ. وهكذا يرد في أيوب 1: 9-11: "فَأَجَابَ ٱلشَّيْطَانُ يَهْوَه وَقَالَ: "هَلْ مَجَّانًا يَتَّقِي أَيُّوبُ ٱللهَ؟ أَلَيْسَ أَنَّكَ سَيَّجْتَ حَوْلَهُ وَحَوْلَ بَيْتِهِ وَحَوْلَ كُلِّ مَا لَهُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ؟ بَارَكْتَ أَعْمَالَ يَدَيْهِ فَٱنْتَشَرَتْ مَوَاشِيهِ فِي ٱلْأَرْضِ. وَلَكِنِ ٱبْسِطْ يَدَكَ ٱلْآنَ وَمَسَّ كُلَّ مَا لَهُ، فَإِنَّهُ فِي وَجْهِكَ يُجَدِّفُ عَلَيْكَ". كان الله على درايةٍ تامة بطبيعة الشيطان الشريرة، وكان يعرف جيّدًا أن الشيطان كان يعتزم منذ فترةٍ طويلة إهلاك أيُّوب، وهكذا تمنّى الله في هذا، من خلال إخبار الشيطان مرةً أخرى أن أيُّوب كان كاملًا ومستقيمًا يتّقي الله ويحيد عن الشرّ، أن يُدخل الشيطان في الأمر فيكشف الشيطان عن وجهه الحقيقيّ بأن يهاجم أيُّوب ويُجرّبه. وهذا يعني أن الله أكّد عمدًا على أن أيُّوب كان كاملًا ومستقيمًا يتّقي الله ويحيد عن الشرّ، وبهذه الطريقة جعل الشيطان يهاجم أيُّوب بسبب كراهية الشيطان وحقده تجاه حقيقة أن أيُّوب كان كاملًا ومستقيمًا يتّقي الله ويحيد عن الشرّ. ونتيجةً لذلك، كان الله سيجلب العار على الشيطان من خلال حقيقة أن أيُّوب كان كاملًا ومستقيمًا يتّقي الله ويحيد عن الشرّ، وسوف يُترك الشيطان مهانًا ومهزومًا تمامًا. بعد ذلك، لم يعد الشيطان يشكّ أو يُوجّه اتّهامات بخصوص كمال أيُّوب أو استقامته أو اتّقائه الله أو حيدانه عن الشرّ. بهذه الطريقة، كانت تجربة الله وإغواء الشيطان حتميّين تقريبًا. كان الشخص الوحيد القادر على احتمال تجربة الله وإغواء الشيطان هو أيُّوب. حصل الشيطان بعد هذا الحوار على الإذن بإغواء أيُّوب. وهكذا بدأت جولة الشيطان الأولى من الهجمات. كان الهدف من هذه الهجمات هو ممتلكات أيُّوب، لأن الشيطان كان قد قدّم الاتّهام التالي ضد أيُّوب: "هَلْ مَجَّانًا يَتَّقِي أَيُّوبُ ٱللهَ؟ ... بَارَكْتَ أَعْمَالَ يَدَيْهِ فَٱنْتَشَرَتْ مَوَاشِيهِ فِي ٱلْأَرْضِ". ونتيجةً لذلك، سمح الله للشيطان بأن يأخذ كل ما كان لدى أيُّوب – وهو الهدف الوحيد من حديث الله مع الشيطان. ومع ذلك، طلب الله من الشيطان طلبًا واحدًا: "هُوَذَا كُلُّ مَا لَهُ فِي يَدِكَ، وَإِنَّمَا إِلَيهِ لَا تَمُدَّ يَدَكَ" (أيوب 1: 12). كان هذا هو الشرط الذي قدّمه الله بعد أن سمح للشيطان بإغواء أيُّوب وبعد أن وضع أيُّوب في يد الشيطان، وكان هو الحدّ الذي وضعه للشيطان: أمر الله الشيطان بألا يؤذي أيُّوب. لأن الله كان يعرف أن أيُّوب رجلٌ كاملٌ مستقيمٌ، وكان واثقًا من أن كمال أيُّوب واستقامته أمامه لا شكّ فيهما ويمكنهما اجتياز الاختبار، فمن ثمَّ سمح الله للشيطان بإغواء أيُّوب، لكنه فرض قيدًا على الشيطان: سُمِح للشيطان بأن يأخذ جميع ممتلكات أيُّوب، لكنه لم يُسمح له بأن يمسّ شعرة منه. ماذا يعني هذا؟ يعني أن الله لم يُسلّم أيُّوب تمامًا إلى الشيطان في تلك اللحظة. كان يمكن للشيطان إغواء أيُّوب بأيّة طريقةٍ أرادها، ولكن لم يكن بإمكانه أن يؤذي أيُّوب نفسه، ولا حتّى شعرة واحدة من شعر رأسه، لأن الله يتحكّم بكل ما في الإنسان، وما دام الله يقرّر ما إذا كان الإنسان يعيش أو يموت، فإن الشيطان لا يملك هذا الامتياز. بعد أن قال الله هذه الكلمات إلى الشيطان، لم يسع الشيطان الانتظار حتّى يبدأ. استعمل كل وسيلةٍ لإغواء أيُّوب، وسرعان ما فقد أيُّوب ما يعادل جبلًا من الأغنام والثيران وجميع الممتلكات التي منحه الله إياها...هكذا جاءت تجارب الله عليه.

مع أن الكتاب المُقدّس يخبرنا عن أصول تجربة أيُّوب، هل كان أيُّوب نفسه، الشخص الذي تعرّض لهذا الإغواء، مدركًا لما كان يحدث؟ كان أيُّوب مُجرّد إنسان، وبالطبع لم يكن يعرف شيئًا عن القصة التي تتكشّف من حوله. ومع ذلك، فإن اتّقاءه الله وكماله واستقامته جعله يُدرِك أن تجارب الله قد حلّت عليه. لم يكن يعرف ما حدث في العالم الروحيّ، ولا أن نوايا الله وراء هذه التجارب. لكنه كان يعلم أنه بغضّ النظر عما حدث له، فإنه يجب أن يظل صادقًا في كماله واستقامته، وأن يلتزم بطريق اتّقاء الله والحيدان عن الشرّ. كان موقف أيُّوب وردّ فعله تجاه هذه الأمور واضحين أمام الله. اذا رأى الله؟ رأى قلب أيُّوب الذي يتّقي الله، لأنه من البداية لحين تجربة أيُّوب، بقي قلب أيُّوب مفتوحًا لله ومنبسطًا أمام الله، ولم يتخلّ أيُّوب عن كماله أو استقامته، ولم يحد أو يبتعد عن طريق اتّقاء الله والحيدان عن الشرّ. لم يكن ثمة شيءٌ أكثر إرضاءً لله من هذا. بعد ذلك، سوف ننظر إلى ماهية الغوايات التي تعرّض لها أيُّوب وكيف تعامل معها. دعونا نقرأ من الكتاب المُقدّس.

ج. ردّ فعل أيُّوب

(أيوب 1: 20-21) "فَقَامَ أَيُّوبُ وَمَزَّقَ جُبَّتَهُ، وَجَزَّ شَعْرَ رَأْسِهِ، وَخَرَّ عَلَى ٱلْأَرْضِ وَسَجَدَ، وَقَالَ: "عُرْيَانًا خَرَجْتُ مِنْ بَطْنِ أُمِّي، وَعُرْيَانًا أَعُودُ إِلَى هُنَاكَ. يَهْوَه أَعْطَى وَيَهْوَه أَخَذَ، فَلْيَكُنِ ٱسْمُ يَهْوَه مُبَارَكًا".

قرار أيُّوب بإعادة كل ما يملكه نابعٌ من اتّقائه الله

بعد أن قال الله للشيطان: "هُوَذَا كُلُّ مَا لَهُ فِي يَدِكَ، وَإِنَّمَا إِلَيهِ لَا تَمُدَّ يَدَكَ"، غادر الشيطان، وبعدها بفترةٍ وجيزة تعرّض أيُّوب لهجومٍ مفاجئ وشرس: أولًا، نُهِبَت ثيرانه وحميره، وقُتِلَ بعض خدمه؛ وبعد ذلك، التهمت النيران خرافه وبعض خدمه؛ وبعد ذلك، أُخذت جِماله وقُتِلَ المزيد من خدمه؛ وأخيرًا، مات أبناؤه وبناته. كانت هذه السلسلة من الهجمات هي العذاب الذي عانى منه أيُّوب أثناء الإغواء الأول. وبحسب أمر الله، لم يستهدف الشيطان خلال هذه الهجمات سوى ممتلكات أيُّوب وأولاده، ولم يؤذِ أيُّوب نفسه. ومع ذلك، تحوّل أيُّوب على الفور من رجلٍ غنيّ يمتلك ثروة عظيمة إلى شخصٍ لم يكن لديه أيّ شيءٍ. لم يكن بمقدور أحدٍ أن يقاوم هذه الضربة المفاجئة المذهلة أو التعامل معها تعاملًا صحيحًا، إلا أن أيُّوب أظهر جانبه الاستثنائيّ. يُقدّم الكتاب المُقدّس الوصف التالي: "فَقَامَ أَيُّوبُ وَمَزَّقَ جُبَّتَهُ، وَجَزَّ شَعْرَ رَأْسِهِ، وَخَرَّ عَلَى ٱلْأَرْضِ وَسَجَدَ". كان هذا أول ردّ فعلٍ لأيُّوب بعد سماعه أنه فقد أبناءه وجميع ممتلكاته. في الأساس، لم يبدُ متفاجئًا أو مصابًا بالذعر، فضلاً عن أنه لم يُعبّر عن غضبه أو كراهيته. ترى، إذًا، أنه أدرك بالفعل في قلبه أن هذه الكوارث لم تحدث بالمصادفة أو تسبّبت بها يد الإنسان، وبالطبع لم تكن نتيجة جزاءٍ أو عقاب. بل حلّت عليه تجارب يهوه وكان يهوه هو من أراد أخذ ممتلكاته وأولاده. كان أيُّوب هادئًا جدًّا وصافي الذهن في ذلك الوقت. مكّنته شخصيّته الكاملة المستقيمة من اتّخاذ أحكامٍ وقرارات دقيقة بصورةٍ عقلانيّة وطبيعيّة بخصوص المصائب التي حلّت به، ونتيجةً لذلك، تصرّف بهدوءٍ غير عاديّ: "فَقَامَ أَيُّوبُ وَمَزَّقَ جُبَّتَهُ، وَجَزَّ شَعْرَ رَأْسِهِ، وَخَرَّ عَلَى ٱلْأَرْضِ وَسَجَدَ". "مَزَّقَ جُبَّتَهُ" تعني أنه كان عريانًا ولا يملك أيّ شيءٍ؛ و"جَزَّ شَعْرَ رَأْسِهِ" تعني أنه عاد أمام الله مثل طفلٍ حديث الولادة؛ و"خَرَّ عَلَى ٱلْأَرْضِ وَسَجَدَ" تعني أنه جاء إلى العالم عريانًا وما زال ليس لديه أيّ شيءٍ اليوم وأنه عاد إلى الله مثل طفلٍ حديث الولادة. لم يكن من الممكن لأيّ مخلوقٍ من مخلوقات الله أن يكون له موقف أيُّوب تجاه كل ما أصابه. إيمانه بيَهْوَه تجاوز عالم الإيمان؛ كان هذا اتّقاؤه الله وطاعته إياه، ولم يكن بمقدوره شكر الله على ما يعطيه فحسب، بل أيضًا على ما يأخذه منه. وبالإضافة إلى ذلك، تمكّن من أن يأخذ على عاتقه إعادة كل ما يملكه إلى الله، بما في ذلك حياته.

اتّقاء أيُّوب الله وطاعته إياه مثالٌ للجنس البشريّ، كما أن كماله واستقامته كانا ذروة المثال الإنسانيّ الذي يجب أن يتّسم به الإنسان. مع أنه لم يرَ الله، إلا أنه أدرك أنه موجودٌ بالفعل، وبسبب هذا الإدراك كان يتّقي الله – وبسبب اتقائه الله، استطاع أن يطيعه. سمح لله بأن يأخذ كل ما لديه، ولكنه لم يكن يشتكي، كما أنه سجد أمام الله وأخبره أنه في هذه اللحظة حتّى لو أخذ الله جسده فسوف يسرّه أن يسمح له بذلك دون شكوى. كان سلوكه كله يرجع لشخصيّته الكاملة المستقيمة. وهذا يعني أنه نتيجة لبراءة أيُّوب وأمانته ولطفه، فإنه كان راسخًا في إدراكه واختباره لوجود الله. وعلى هذا الأساس أخضع نفسه ووحّد تفكيره وسلوكه وتصرّفه ومبادئ أعماله أمام الله وفقًا لإرشاد الله له وأعمال الله التي رآها بين جميع الأشياء. ومع مرور الوقت، ولّدت اختباراته فيه اتّقاءً حقيقيًا وفعليًا لله وجعلته يحيد عن الشرّ. كان هذا هو مصدر الاستقامة التي تمسّك بها أيُّوب. كان أيُّوب يتّسم بشخصيّةٍ مستقيمة وبريئة وطيّبة، وكان لديه اختبارٌ فعليّ في اتّقاء الله وطاعته والحيدان عن الشرّ، بالإضافة إلى معرفة أن "يَهْوَه أَعْطَى وَيَهْوَه أَخَذَ". وبفضل هذه السمات وحدها استطاع الثبات في شهادته وسط هجمات الشيطان الشريرة هذه، وبفضلها وحدها لم يُخيّب أمل الله بل قدّم إجابة مُرضية لله عندما حلّت به تجارب الله. ومع أن سلوك أيُّوب أثناء الإغواء الأول كان واضحًا جدًا، إلا أن الأجيال اللاحقة لم تتمكّن من بلوغ هذا القدر من الوضوح حتّى بعد مجهودٍ طويل الأمد، كما أنها لم تكن بالضرورة تتّسم بسلوك أيُّوب الموصوف أعلاه. واليوم، بمواجهة سلوك أيُّوب الصريح، وبمقارنته مع صرخات وصيحات "الطاعة المطلقة والولاء حتّى الموت" التي يُظهِرها لله أولئك الذين يدّعون الإيمان به واتّباعه، هل تشعرون بالخجل الشديد أم لا؟

عندما تقرأ في الكتاب المُقدّس عن كل ما عاناه أيُّوب وعائلته، ما ردّ فعلك؟ هل تتوه في أفكارك؟ هل تشعر بالذهول؟ هل يمكن وصف التجارب التي أصابت أيُّوب بأنها "مرعبة"؟ هذا يعني أنه من المُروّع بما فيه الكفاية قراءة تجارب أيُّوب كما هي موصوفةٌ في الكتاب المُقدّس فضلًا عن كيفيّة حدوثها في الحياة الواقعية. ترى، إذًا، أن ما أصاب أيُّوب لم يكن "تدريبًا عمليًا" بل "معركة" حقيقيّة تتضمّن "مسدّسات" و"رصاصات" حقيقيّة. ولكن بيَدِ مَنْ خضع لهذه التجارب؟ لقد كانت بالطبع من عمل الشيطان، وقام الشيطان بهذه الأمور بيديه، وعلى الرغم من ذلك، فقد تمت هذه الأمور بتفويض من الله. هل أخبر الله الشيطان عن أيّة وسائل يُجرّب بها أيُّوب؟ لم يفعل ذلك. ألم يضع الله إلّا شرطًا واحدًا تعين على أيوب الالتزام به، وبعد ذلك تعرّض أيُّوب للتجربة. وعندما تعرّض أيُّوب للتجربة، شعر الناس بشرّ الشيطان وبشاعته، وبخبثه وكراهيته للإنسان، وبعدائه لله. نرى في هذا أن الكلمات لا يمكنها وصف مدى قسوة هذه التجربة. يمكن القول إن الطبيعة الشريرة التي أساء بها الشيطان للإنسان ووجهه القبيح انكشفا بالكامل في هذه اللحظة. استخدم الشيطان هذه الفرصة، الفرصة التي أتاحها سماح الله، لإخضاع أيُّوب للإساءة الشديدة الضارية التي لا يمكن للناس اليوم تصوّر أو تحمّل طريقة ومستوى وحشيّتها. بدلًا من القول بأن أيُّوب جرّبه الشيطان وظلّ ثابتًا في شهادته خلال هذه التجربة، من الأفضل القول بأنه في التجارب التي قرّرها الله لأيُّوب، انبرى أيُّوب في منافسةٍ مع الشيطان لحماية كماله واستقامته، والدفاع عن طريق اتّقاء الله والحيدان عن الشرّ. فقد أيُّوب في هذه المنافسة ما يعادل وزن جبل من الأغنام والماشية، وخسر جميع ممتلكاته، وفقد أبناءه وبناته، ولكنه لم يتخلّ عن كماله أو استقامته أو اتّقائه الله. وهذا يعني أن أيوب، في هذه المنافسة مع الشيطان، فضّل أن يكون محرومًا من ممتلكاته وأولاده عن أن يفقد كماله واستقامته واتّقائه الله. لقد فضّل التمّسك بجذر رجولته. يُقدّم الكتاب المُقدّس وصفًا موجزًا للعمليّة بأكملها التي فقد بها أيُّوب أمواله، كما يُوثّق سلوك أيُّوب وموقفه. هذه الأوصاف المقتضبة الموجزة تُشعِرك بأن أيُّوب كان أشبه بكونه مسترخيًا في مواجهة هذه التجربة، ولكن في حال إعادة عمل ما حدث بالفعل، آخذين في الاعتبار طبيعة الشيطان الخبيثة، فلن تكون الأمور بسيطة أو سهلة كما تصفها هذه العبارات. كان الواقع أشدّ قسوةٍ. هذا هو مستوى الخراب والكراهية الذي يعامل به الشيطان الجنس البشريّ وجميع من يقبلهم الله. إذا لم يكن الله قد طلب من الشيطان عدم إيذاء أيُّوب، لكان الشيطان قد قتل أيُّوب دون شكٍّ دون أيّ ندمٍ. فالشيطان لا يريد أحدًا يعبد الله، ولا يتمنّى من أولئك الذين هم أبرارٌ في نظر الله وكاملون ومستقيمون أن يستمرّوا في اتّقائهم الله وحيدانهم عن الشرّ. أن يتّقي الناس الله ويحيدوا عن الشرّ معناه أنهم يتجنّبون الشيطان ويتركونه، وهكذا استفاد الشيطان من سماح الله فصبّ جام غضبه وكراهيته على أيُّوب بلا رحمةٍ. ترى، إذًا، مدى شدّة العذاب الذي عاناه أيُّوب، في عقله وجسده، ومن الخارج والداخل. لا نرى اليوم كيف كان الأمر في ذلك الوقت، ولكن يمكننا من روايات الكتاب المُقدّس أن ننظر بلمحةٍ موجزة مشاعر أيُّوب عندما تعرّض للعذاب في ذلك الوقت.

استقامة أيُّوب الراسخة تجلب الخزي على الشيطان وتجعله يهرب مذعورًا

وماذا فعل الله عندما تعرّض أيُّوب لهذا العذاب؟ راقب الله النتيجة وشاهدها وانتظرها. ماذا كان شعور الله فيما كان يراقب ويشاهد؟ شعر بالأسى الشديد، بالطبع. ولكن، هل يمكن أن يكون الله قد نَدِمَ على سماحه للشيطان بغواية أيُّوب؛ لمجرد الحزن الذي شعر به؟ الجواب، كلا، لا يمكن أن يكون قد أحس بمثل هذا الندم. لأنه كان يعتقد اعتقادًا راسخًا أن أيُّوب كان كاملًا ومستقيمًا يتّقي الله ويحيد عن الشرّ. أعطى الله الشيطان ببساطةٍ فرصة التحقّق من برّ أيُّوب أمام الله، والكشف عن شرّ الشيطان وحقارته. إضافة إلى ذلك، كانت هذه فرصةٌ لأيُّوب ليقدم شهادة عن برّه واتّقائه الله وحيدانه عن الشرّ أمام شعوب العالم والشيطان وحتّى أولئك الذين يتبعون الله. هل أثبتت النتيجة النهائيّة أن تقييم الله لأيُّوب كان صحيحًا وبدون خطأ؟ هل غلب أيُّوب الشيطان فعليًّا؟ نقرأ هنا الكلمات الأصليّة التي قالها أيُّوب، وهي كلماتٌ تُثبِت أنه غلب الشيطان. قال: "عُرْيَانًا خَرَجْتُ مِنْ بَطْنِ أُمِّي، وَعُرْيَانًا أَعُودُ إِلَى هُنَاكَ". هذا هو موقف أيُّوب من الطاعة تجاه الله. ثم قال: "يَهْوَه أَعْطَى وَيَهْوَه أَخَذَ، فَلْيَكُنِ ٱسْمُ يَهْوَه مُبَارَكًا". هذه الكلمات التي قالها أيُّوب تُثبِت أن الله يلاحظ أعماق قلب الإنسان، وأنه قادرٌ على النظر في عقل الإنسان، وتُثبِت أن قبوله لأيُّوب لا خطأ فيه، وأن هذا الرجل الذي قبله الله كان بارًا. "يَهْوَه أَعْطَى وَيَهْوَه أَخَذَ، فَلْيَكُنِ ٱسْمُ يَهْوَه مُبَارَكًا". هذه الكلمات هي شهادة أيُّوب عن الله. كانت هذه الكلمات العاديّة هي التي روّعت الشيطان وجلبت عليه الخزي وجعلته يهرب مذعورًا، وإضافة إلى ذلك، كبّلت الشيطان وتركته دون موارد. وهكذا أيضًا، جعلت هذه الكلمات الشيطان يشعر بعجائب عمل يهوه الله وقوّته، وسمحت له بإدراك الكاريزما الاستثنائيّة لشخصٍ يحكم قلبه طريق الله. إضافة إلى ذلك، أظهرت للشيطان الحيوّية الهائلة التي أظهرها رجلٌ صغير غير ذي أهمّيّةٍ في التمسّك بطريق اتّقاء الله والحيدان عن الشرّ. وهكذا انهزم الشيطان في المنافسة الأولى. على الرغم من أن الشيطان "تعلم درسًا من ذلك"، فإنه لم تكن لديه أيّة نيةٍ لترك أيُّوب وشأنه، ولم يُوجد أيّ تغييرٍ في طبيعته الشريرة. حاول الشيطان الاستمرار في مهاجمة أيُّوب، وهكذا جاء مرةً أخرى أمام الله...

دعونا، بعد ذلك، نقرأ الكتاب المُقدّس بخصوص التجربة الثانية لأيُّوب.

3. الشيطان يُجرّب أيُّوب مرةً أخرى (قروحٌ تملأ جسم أيُّوب)

أ. الكلمات التي تكلّم بها الله

(أيوب 2: 3) "فَقَالَ يَهْوَه لِلشَّيْطَانِ: "هَلْ جَعَلْتَ قَلْبَكَ عَلَى عَبْدِي أَيُّوبَ؟ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِثْلُهُ فِي ٱلْأَرْضِ. رَجُلٌ كَامِلٌ وَمُسْتَقِيمٌ يَتَّقِي ٱللهَ وَيَحِيدُ عَنِ ٱلشَّرِّ. وَإِلَى ٱلْآنَ هُوَ مُتَمَسِّكٌ بِكَمَالِهِ، وَقَدْ هَيَّجْتَنِي عَلَيْهِ لِأَبْتَلِعَهُ بِلَا سَبَبٍ".

(أيوب 2: 6) "فَقَالَ يَهْوَه لِلشَّيْطَانِ: "هَا هُوَ فِي يَدِكَ، وَلَكِنِ ٱحْفَظْ نَفْسَهُ".

ب. كلمات الشيطان

(أيوب 2: 4-5) "فَأَجَابَ ٱلشَّيْطَانُ يَهْوَه وَقَالَ: "جِلْدٌ بِجِلْدٍ، وَكُلُّ مَا لِلْإِنْسَانِ يُعْطِيهِ لِأَجْلِ نَفْسِهِ. وَلَكِنْ ٱبْسِطِ ٱلْآنَ يَدَكَ وَمَسَّ عَظْمَهُ وَلَحْمَهُ، فَإِنَّهُ فِي وَجْهِكَ يُجَدِّفُ عَلَيْكَ".

ج. كيفيّة تعامل أيُّوب مع التجربة

(أيوب 2: 9-10) "فَقَالَتْ لَهُ ٱمْرَأَتُهُ: "أَنْتَ مُتَمَسِّكٌ بَعْدُ بِكَمَالِكَ؟ بَارِكِ ٱللهَ وَمُتْ!". فَقَالَ لَهَا: "تَتَكَلَّمِينَ كَلَامًا كَإِحْدَى ٱلْجَاهِلَاتِ! أَٱلْخَيْرَ نَقْبَلُ مِنْ عِنْدِ ٱللهِ، وَٱلشَّرَّ لَا نَقْبَلُ؟". فِي كُلِّ هَذَا لَمْ يُخْطِئْ أَيُّوبُ بِشَفَتَيْهِ".

(أيوب 3: 3-4) "لَيْتَهُ هَلَكَ ٱلْيَوْمُ ٱلَّذِي وُلِدْتُ فِيهِ، وَٱللَّيْلُ ٱلَّذِي قَالَ: قَدْ حُبِلَ بِرَجُلٍ. لِيَكُنْ ذَلِكَ ٱلْيَوْمُ ظَلَامًا. لَا يَعْتَنِ بِهِ ٱللهُ مِنْ فَوْقُ، وَلَا يُشْرِقْ عَلَيْهِ نَهَارٌ".

محبّة أيُّوب لطريق الله تفوق كل شيءٍ آخر

يُوثّق الكتاب المُقدّس الكلام الذي جرى بين الله والشيطان على النحو التالي: "فَقَالَ يَهْوَه لِلشَّيْطَانِ: "هَلْ جَعَلْتَ قَلْبَكَ عَلَى عَبْدِي أَيُّوبَ؟ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِثْلُهُ فِي ٱلْأَرْضِ. رَجُلٌ كَامِلٌ وَمُسْتَقِيمٌ يَتَّقِي ٱللهَ وَيَحِيدُ عَنِ ٱلشَّرِّ. وَإِلَى ٱلْآنَ هُوَ مُتَمَسِّكٌ بِكَمَالِهِ، وَقَدْ هَيَّجْتَنِي عَلَيْهِ لِأَبْتَلِعَهُ بِلَا سَبَبٍ" (أيوب 2: 3). يُكرّر الله في هذا الحوار السؤال نفسه للشيطان. إنه سؤالٌ يُبيّن لنا تقييم يهوه الله الإيجابيّ لما أظهره أيُّوب وعايشه أثناء التجربة الأولى، وهو لا يختلف عن تقييم الله لأيُّوب قبل خضوعه لإغواء الشيطان. وهذا يعني أنه قبل أن تحلّ التجربة بأيُّوب كان في نظر الله كاملًا، ومن ثمَّ حفظه الله وحفظ عائلته وباركه؛ كان أيُّوب يستحقّ البركة في نظر الله. وبعد التجربة، لم يخطئ أيوب بشفتيه بسبب أنه فقد ممتلكاته وأولاده، لكنه استمرّ في شكر اسم يهوه. سلوكه الحقيقيّ جعل الله يمدحه، وبسببه منحه الله مكانة خاصة. كان أيُّوب يعتبر أن نسله أو أمواله لم تكن كافية لتدفعه للتجديف على الله. وهذا يعني أن مكانة الله في قلبه لا يمكن أن يحلّ محلّها أولاده أو أيّ جزءٍ من ممتلكاته. أثناء تجربة أيُّوب الأولى، أظهر لله أن محبّته له ومحبّته لطريق اتّقائه وحيدانه عن الشرّ فاقت كل شيءٍ آخر. منحت هذه التجربة وحدها أيُّوب خبرة قبول عطيّة من يهوه الله وقبول أن يأخذ الله أملاكه وأولاده.

اعتبر أيُّوب هذه التجربة اختبارًا حقيقيًّا غسل روحه؛ لقد كانت معموديّة للحياة حقّقت وجوده، وأيضًا، كانت وليمة فخمة اختبرت طاعته لله واتّقاءه إياه. حوّلت هذه التجربة مكانة أيُّوب من مكانة رجلٍ غنيّ إلى شخصٍ لا يملك أيّ شيءٍ، كما سمحت له باختبار سوء معاملة الشيطان للجنس البشريّ. لم يجعله عوزه يمقت الشيطان، بل بالأحرى رأى في أعمال الشيطان الشريرة قبحه وحقارته، بالإضافة إلى عداوة الشيطان لله وتمرّده عليه، وهذا ما شجّعه بالأكثر على التمسّك الدائم بطريق اتّقاء الله والحيدان عن الشرّ. لقد أقسم بأنه لن يتخلّى عن الله ويحيد عن طريق الله بسبب عوامل خارجيّة مثل الممتلكات أو الأولاد أو الأقارب، ولن يكون عبدًا للشيطان أو للممتلكات أو لأيّ شخصٍ. فلا يمكن لأحدٍ من دون يهوه الله أن يكون له ربًّا أو إلهًا. كانت هذه تطلعات أيُّوب. ومن ناحية أخرى، حصل أيُّوب أيضًا على شيءٍ ما من التجربة: اكتسب ثراءً هائلًا في وقت التجارب التي سمح بها الله.

خلال حياة أيُّوب على مدى عدة عقود سابقة، عاين أفعال يهوه واستحقّ بركات يهوه الله له. وقد جعلته هذه البركات يشعر بالحيرة الشديدة والفضل الجزيل، لأنه كان يؤمن أنه لم يفعل أيّ شيءٍ من أجل الله ومع ذلك رُزِقَ بمثل هذه البركات الوفيرة وتمتّع بموفور النعمة. ولهذا السبب، كان كثيرًا ما يُصلّي في قلبه آملًا من أن يتمكّن من ردّ الجميل لله، ومن أن تُتاح له الفرصة للشهادة لأعمال الله وعظمته، ومن أن يضع الله طاعته موضع اختبارٍ، وإضافة إلى ذلك، من أن يتطهّر إيمانه إلى أن يقبل الله طاعته وإيمانه. وعندما حلّت التجربة بأيُّوب، آمن أن الله سمع صلواته. قدّر أيُّوب هذه الفرصة أكثر من أيّ شيءٍ آخر، ولهذا لم يجرؤ على الاستهانة بها، لأن ها هي أعظم أمانيه تتحقّق. كان وصول هذه الفرصة يعني أن طاعته واتّقاءه الله يمكن اختبارهما وتمحيصهما. وإضافة إلى ذلك، كان الأمر يعني أن أيُّوب نال قبول الله، ممّا جعله أقرب إلى الله. خلال التجربة، سمح له هذا الإيمان وهذا السعي أن يصبح أكثر كمالًا، وأن يفهم إرادة الله فهمًا أفضل. أصبح أيُّوب أيضًا أكثر امتنانًا لبركات الله ونعمه، وكان قلبه يفيض بتسبيح أعمال الله، وكان أكثر اتّقاءً لله وتبجيلًا له، كما أنه كان يتوق أكثر لجمال الله وعظمته وقداسته. في هذا الوقت، مع أن أيُّوب كان لا يزال يتّقي الله ويحيد عن الشرّ في نظر الله، فإنه فيما يتعلّق بتجاربه أحرز إيمان أيوب ومعرفته تقدمًا هائلًا: ازداد إيمانه وترسّخت طاعته وأصبح اتّقاؤه الله أعمق. ومع أن هذه التجربة حوّلت روح أيُّوب وحياته، إلا أن هذا التحوّل لم يُرضِه ولم يُبطئ تقدّمه للأمام. في وقت حسابه لما كسبه من هذه التجربة، والنظر في عيوبه الخاصة، كان يُصلّى بهدوءٍ منتظرًا أن تحلّ به التجربة التالية، لأنه كان يتوق لزيادة مستوى إيمانه وطاعته واتّقائه الله خلال التجربة اللاحقة من الله.

يلاحظ الله الأفكار العميقة للإنسان وكل ما يقوله الإنسان ويفعله. وقد وصلت أفكار أيُّوب مسامع يهوه الله، واستمع الله إلى صلواته، وبهذه الطريقة حلّت تجربة الله اللاحقة كما كان مُتوقّعًا.

وسط المعاناة الشديدة يُدرِك أيُّوب حقًّا رعاية الله للبشريّة

بعد الأسئلة التي وجهها يهوه الله إلى الشيطان، كان الشيطان سعيدًا في داخله. كان ذلك لأن الشيطان عرف أنه سوف يُسمَح له مرةً أخرى بالهجوم على الرجل الذي كان كاملًا في نظر الله – وكانت هذه فرصةٌ نادرة للشيطان. أراد الشيطان استغلال هذه الفرصة لتقويض قناعة أيُّوب بالكامل، وجعله يفقد إيمانه بالله، ومن ثم لا يعد يتّقي الله أو يبارك اسم يهوه. كان هذا من شأنه أن يمنح الشيطان فرصة: بغضّ النظر عن المكان أو الزمان، سوف يكون بإمكان الشيطان أن يجعل أيُّوب ألعوبة تحت سطوته. أخفى الشيطان نواياه الشريرة دون أن يترك أثرًا، لكنه لم يستطع إخفاء طبيعته الشريرة. تظهر هذه الحقيقة في ردّه على كلام يهوه الله، كما هو مُسجّلٌ في الكتاب المُقدّس: "فَأَجَابَ ٱلشَّيْطَانُ يَهْوَه وَقَالَ: "جِلْدٌ بِجِلْدٍ، وَكُلُّ مَا لِلْإِنْسَانِ يُعْطِيهِ لِأَجْلِ نَفْسِهِ. وَلَكِنْ ٱبْسِطِ ٱلْآنَ يَدَكَ وَمَسَّ عَظْمَهُ وَلَحْمَهُ، فَإِنَّهُ فِي وَجْهِكَ يُجَدِّفُ عَلَيْكَ" (أيوب 2: 4-5). من المستحيل عدم اكتساب معرفة جوهريّة وإحساس بخبث الشيطان وخزيه من هذا الحوار بين الله والشيطان. بعد سماع هذه المغالطات من الشيطان، فإن جميع من يحبّون الحق ويمقتون الشرّ سوف يكون لديهم دون شكٍّ كراهية أكبر لسفالة الشيطان ووقاحته، وسوف يشعرون بالفزع والاشمئزاز من مغالطات الشيطان، وفي الوقت نفسه سوف يرفعون صلوات حارة وأمنيات قلبيّة من أجل أيُّوب، داعين أن يتمكّن هذا الرجل البار من بلوغ الكمال، ومتمنين لهذا الرجل الذي يتّقي الله ويحيد عن الشرّ أن يتغلّب دائمًا على إغواء الشيطان، ويحيا في النور وفي ظلّ إرشاد الله وبركاته؛ وكذلك أيضًأ سيتمنى هؤلاء الناس أن تُحفّز أعمال أيُّوب الصالحة وتُشجّع جميع من يسعون في طريق اتّقاء الله والحيدان عن الشرّ. مع أن نيّة الشيطان الخبيثة يمكن رؤيتها في هذا الإعلان، إلا أن الله وافق على "طلب" الشيطان مسرورًا، ولكن كان لديه أيضًا شرطٌ واحد: "هَا هُوَ فِي يَدِكَ، وَلَكِنِ ٱحْفَظْ نَفْسَهُ" (أيوب 2: 6). لأن الشيطان طلب في هذه المرة أن يمدّ يده ليؤذي جسد أيُّوب وعظامه، قال له الله: "وَلَكِنِ ٱحْفَظْ نَفْسَهُ". هذه الكلمات تعني أن الله أعطى جسد أيُّوب للشيطان، أما حياة أيوب فكانت ملكًا لله فحفظها. لم يكن ممكنًا للشيطان أن يأخذ حياة أيُّوب، ولكن بعيدًا عن هذا كان ممكنًا للشيطان استخدام أيّة وسيلةٍ أو طريقة ضد أيُّوب.

بعد حصول الشيطان على الإذن من الله، هرع إلى أيُّوب ومدّ يده لإيذاء جسده، ممّا تسبّب في حدوث قروحٍ في جميع أنحاء جسده، فشعر أيُّوب بآلامٍ في جسده. سبّح أيُّوب عظمة يهوه الله وقداسته، ممّا جعل الشيطان أكثر فظاعة في تهوّره. ولأن الشيطان شعر بفرحة إيذاء الإنسان، مدّ يده فضرب جسد أيُّوب، ممّا تسبب في تقيّح قروحه. وعلى الفور شعر أيُّوب بآلامٍ وعذاب في جسده لا مثيل لهما، فلم يكن بوسعه سوى أن يحكّ قروحه من باطن قدمه إلى هامته بيديه، كما لو كان هذا سيُخفّف من الضربة التي وُجِّهت إلى روحه بهذا الألم في جسده. أدرك أن الله كان إلى جانبه مراقبًا إياه، وبذل قصارى جهده لإعداد نفسه للمواجهة. ركع مرة أخرى على الأرض قائلًا: "أنت تنظر قلب الإنسان، وتلاحظ بؤسه. لماذا يُقلِقك ضعفه؟ مباركٌ اسم يهوه الله". رأى الشيطان ألم أيُّوب الذي لا يُطاق، لكنه لم يرَ أيوب يترك اسم يهوه الله. ومن ثمَّ مد يده بسرعةٍ لضرب عظامه في محاولةٍ يائسة لتمزيقه إربًا إربًا. وفي لحظاتٍ شعر أيُّوب بعذابٍ لا حدود له، كما لو كان جسده قد انخلع من عظامه، وكما لو كانت عظامه تقطعت إربًا إربًا. هذا العذاب المؤلم جعله يعتقد أنه من الأفضل له أن يموت...لقد بلغت قدرته على حمّل الألم حدودها...أراد أن يصرخ، أراد أن يُمزّق الجلد على جسده في محاولة لتخفيف الألم – ولكنه كتم صراخه ولم يُمزّق الجلد على جسده، لأنه لم يرد أن يرى الشيطان ضعفه. ولذلك ركع أيوب مرة أخرى، ولكن في هذه المرة لم يشعر بوجود يهوه الله. كان يعلم أن يهوه الله كان في كثيرٍ من الأحيان أمامه، وخلفه، وعلى كلا جانبيه. ولكن خلال ألم أيُّوب لم يكن الله ينظر إليه أبدًا، ولكنه غطّى وجهه واحتجب، لأنه لم يخلق الإنسان ليجلب له المعاناة. كان أيُّوب في هذا الوقت يبكي ويبذل قصارى جهده لتحمّل هذا العذاب الجسديّ، ومع ذلك لم يعد قادرًا على منع نفسه من تقديم الشكر لله: الإنسان يسقط في الضربة الأولى، فهو ضعيفٌ وعاجز، وصغيرٌ وجاهل. فلماذا ترغب في أن تهتمّ به وتحنو عليه؟ إنك تضربني، ولكن يؤلمك أنك تفعل ذلك. مَنْ هو الإنسان حتّى يستحقّ رعايتك واهتمامك؟ بلغت صلاة أيُّوب مسامع الله، وكان الله صامتًا إذ كان يراقب بدون إحداث أي صوت...بعد أن جرّب الشيطان كل خدعةٍ ممكنة دون جدوى، غادر في هدوءٍ، ولكن هذا لم يضع حدًّا لتجارب الله لأيُّوب. ولأن قوّة الله التي تجلّت في أيُّوب لم تُعلَن لأحدٍ، فإن قصة أيُّوب لم تنتهِ بتراجع الشيطان. وفيما أدلت شخصياتٌ أخرى بآرائها، مازالت توجد المزيد من المشاهد المذهلة التي لم تنكشف بعد.

مظهرٌ آخر لاتّقاء أيُّوب الله وحيدانه عن الشرّ هو تمجيده اسم الله في كل شيءٍ

تحمّل أيُّوب ضربات الشيطان، ومع ذلك لم يترك اسم يهوه الله. كانت زوجته أول مَنْ تقدم وهاجمت أيوب، مؤدية بذلك دور الشيطان في هيئة واضحة للعيان. يصف النصّ الأصليّ ذلك على النحو التالي: "فَقَالَتْ لَهُ ٱمْرَأَتُهُ: "أَنْتَ مُتَمَسِّكٌ بَعْدُ بِكَمَالِكَ؟ بَارِكِ ٱللهَ وَمُتْ!" (أيوب 2: 9). كانت هذه هي الكلمات التي قالها الشيطان في شكل إنسانٍ. كانت هجومًا واتّهامًا وإغواءً وإغراءً وتشهيرًا. بعدما فشل الشيطان في مهاجمة جسد أيُّوب، هاجم كماله هجومًا مباشرًا، راغبًا في استخدام ذلك كي يتخلّى أيُّوب عن كماله ويُجدّف على الله ولا يعود ينعم بالحياة. كما أراد الشيطان استخدام هذه الكلمات لإغواء أيُّوب: إذا تخلّى أيُّوب عن اسم يهوه، فلن يكون بعد ذلك بحاجةٍ لتحمّل مثل هذا العذاب، وسوف يمكنه أن يُحرّر نفسه من عذاب الجسد. واجه أيُّوب نصيحة زوجته بتوبيخها قائلًا: "تَتَكَلَّمِينَ كَلَامًا كَإِحْدَى ٱلْجَاهِلَاتِ! أَٱلْخَيْرَ نَقْبَلُ مِنْ عِنْدِ ٱللهِ، وَٱلشَّرَّ لَا نَقْبَلُ؟" (أيوب 2: 10). كان أيُّوب يعرف هذه الكلمات منذ فترةٍ طويلة، ولكن في هذا الوقت تبرهنت حقيقة معرفة أيُّوب بها.

عندما أشارت عليه زوجته بأن يبارك الله ويموت كانت تقصد: إن إلهك يعاملك هكذا، فلماذا لا تلعنه؟ ماذا تفعل وأنت حيٌّ؟ إلهك يعاملك بمنتهى الظلم وما زلت تقول "فَلْيَكُنِ ٱسْمُ يَهْوَه مُبَارَكًا". كيف يجلب عليك بلية وأنت تبارك اسمه؟ أسرع وتخلّى عن اسم الله ولا تتبعه فيما بعد، ومن ثم ستنتهي متاعبك. في هذه اللحظة ظهرت الشهادة التي أراد الله رؤيتها في أيُّوب. لم يكن ممكنًا لأيّ شخصٍ عاديّ أن يحمل هذه الشهادة، ولا نقرأ عنها في أيٍّ من قصص الكتاب المُقدّس، ولكن الله رآها قبل فترةٍ طويلة من تحدّث أيُّوب بهذه الكلمات. أراد الله أن ينتهز هذه الفرصة ليسمح لأيُّوب بأن يثبت للجميع أن الله كان مُحقًّا. في مواجهة أيُّوب لمشورة زوجته، لم يتخلّ عن كماله ولم يُجدّف على الله، بل قال لزوجته: "أَٱلْخَيْرَ نَقْبَلُ مِنْ عِنْدِ ٱللهِ، وَٱلشَّرَّ لَا نَقْبَلُ؟". هل لهذه الكلمات أهمّيّة كبيرة؟ توجد هنا حقيقةٌ واحدة فقط قادرة على إثبات أهمّيّة هذه الكلمات. إن أهمّيّة هذه الكلمات هي أنها معتمدةٌ من الله في قلبه، وهي ما أراده الله، وما أراد الله أن يسمعه، وهي النتيجة التي كان الله يتوق لرؤيتها؛ هذه الكلمات هي أيضًا جوهر شهادة أيُّوب. وفيها تبرهن كمال أيُّوب وبرّه واتقّاؤه الله وحيدانه عن الشرّ. تكمن قيمة أيُّوب في الكيفيّة التي ظل بها ينطق هذه الكلمات عندما تعرّض للتجربة، وحتّى عندما تغطّى جسمه كلّه بالقروح المؤلمة، وعندما تحمّل العذاب الشديد، وعندما أشارت عليه زوجته وأقاربه. وهذا معناه أن أيُّوب، في قلبه، كان يعتقد أنه مهما كان نوع الإغواء، أو مدى بشاعة المآسي أو العذاب، وحتّى إذا كان سيواجه الموت، فإنه لن يُجدّف على الله أو يرفض طريق اتّقاء الله والحيدان عن الشر. ترى، إذًا، أن الله كان يشغل أهمّ مكانةٍ في قلبه، وأنه لم يُوجد سوى الله في قلبه. ولهذا السبب نقرأ أوصاف عنه في الكتاب المُقدّس مثل: "فِي كُلِّ هَذَا لَمْ يُخْطِئْ أَيُّوبُ بِشَفَتَيْهِ". ليس فقط أنه لم يخطئ بشفتيه، ولكن في قلبه لم يشتكِ من الله. لم يقل كلمات مؤذية عن الله، ولم يخطئ إلى الله. لم يكتفِ فمه بمباركة اسم الله وحسب، ولكنه بارك اسم الله في قلبه أيضًا. كان فمه وقلبه واحدًا. كان هذا أيُّوب الحقيقيّ الذي رآه الله، ولهذا السبب عينه كان الله يُقدّر أيُّوب.

الكثير من المفاهيم الخاطئة عند الناس عن أيُّوب

لم تكن المحنة التي تكبدّها أيُّوب هي عمل رسلٍ أرسلهم الله، ولا بسبب يد الله. ولكنها كانت بسبب الشيطان، عدو الله، شخصيًّا. ومن ثمَّ كان مستوى المحنة التي تكبدّها أيُّوب عميقًا. ولكن في هذه اللحظة، أظهر أيُّوب، دون تحفّظٍ، معرفته اليوميّة بالله في قلبه، ومبادئ أفعاله اليوميّة، وموقفه من الله – وهذه هي الحقيقة. إذا لم يكن أيُّوب قد تعرّض للتجربة، وإذا لم يكن الله قد حلّ بالتجارب على أيُّوب، لقلتَ إن أيُّوب منافق عندما قال: "يَهْوَه أَعْطَى وَيَهْوَه أَخَذَ، فَلْيَكُنِ ٱسْمُ يَهْوَه مُبَارَكًا". لقد منحه الله الكثير من الأموال ولهذا بارك اسم يهوه بالطبع. إذا كان أيُّوب قد قال: "أَٱلْخَيْرَ نَقْبَلُ مِنْ عِنْدِ ٱللهِ، وَٱلشَّرَّ لَا نَقْبَلُ؟". قبل خضوعه للتجارب، لقلت إنه يبالغ، وإنه لن يُجدّف على اسم الله لأن يد الله كثيرًا ما أنعمت عليه. وستقول إنه لو أن الله قد حلّ بالبلوى عليه، لكان بالتأكيد قد جدّف على اسم الله. ومع ذلك، عندما وجد أيوب نفسه في ظروفٍ لا يرغب فيها أحدٌ أو يتمنّى رؤيتها؛ ظروف لا يرغب أحد في أن تصيبه، ويخشى من أن تحل به، وهي ظروفٌ لم يستطع الله نفسه تحمّل رؤيتها، كان أيُّوب لا يزال قادرًا على التمسّك بكماله: "يَهْوَه أَعْطَى وَيَهْوَه أَخَذَ، فَلْيَكُنِ ٱسْمُ يَهْوَه مُبَارَكًا"، و"أَٱلْخَيْرَ نَقْبَلُ مِنْ عِنْدِ ٱللهِ، وَٱلشَّرَّ لَا نَقْبَلُ؟". في مواجهة سلوك أيُّوب في هذا الوقت، فإن أولئك الذين يُحبّون التحدّث بكلماتٍ رنّانة ويُحبّون التكلّم بالحروف والتعاليم، يبقون صامتين. أولئك الذين لا يُمجّدون اسم الله إلا بالكلام، ولكنهم لم يقبلوا قط تجارب الله، مدانون بالكمال الذي تمسك به أيُّوب، وأولئك الذين لم يُصدّقوا قط أن الإنسان قادرٌ على التمسّك بطريق الله مدانون بشهادة أيُّوب. في مواجهة سلوك أيُّوب أثناء هذه التجارب والكلمات التي تكلّم بها، سوف يشعر بعض الناس بالارتباك، وسوف يشعر البعض بالحسد، وسوف يشعر البعض بالشكّ، وسوف يبدو على البعض اللامبالاة حتّى إنهم يزدرون شهادة أيُّوب لأنهم لا ينظرون العذاب الذي حلّ بأيُّوب أثناء التجارب ويقرأون الكلمات التي تكلّم بها أيُّوب وحسب، ولكنهم أيضًا ينظرون إلى "الضعف" البشريّ الذي أظهره أيُّوب عندما داهمته التجارب. يعتقدون أن هذا "الضعف" هو النقص المفترض في كمال أيُّوب، أي العيب الذي في إنسانٍ كان في نظر الله كاملًا. وهذا يعني أنه من المعتقد أن الكاملين لا عيب فيهم ولا شائبة، وأنهم لا يعانون من ضعفٍ، ولا معرفة لديهم بالألم، وأنهم لا يشعرون أبدًا بالتعاسة أو الكآبة، وأنهم بدون كراهيةٍ أو أيّ سلوكٍ جامح خارجيًّا. ونتيجةً لذلك، فإن الغالبية العظمى من الناس لا يعتقدون أن أيُّوب كان كاملًا حقًّا. لا يوافق الناس على الكثير من جوانب سلوكه خلال تجاربه. على سبيل المثال، عندما فقد أيُّوب ممتلكاته وأولاده، لم ينفجر في البكاء مثلما كان يتصوّر الناس. إن "تصرفه غير الملائم" يدفع الناس للاعتقاد أنه بارد المشاعر لأنه كان بلا دموعٍ أو محبة لعائلته. هذا هو الانطباع السيئ الأوّليّ الذي يكوّنه الناس أولًا عن أيُّوب. كما أنهم يجدون سلوكه بعد ذلك أكثر إرباكًا: فسر الناس عبارة "مَزَّقَ جُبَّتَهُ" على أنها عدم احترامٍ لله، كما أنهم يفهمون بالخطأ أن عبارة "جَزَّ شَعْرَ رَأْسِهِ" يعني تجديف أيُّوب على الله ومعارضته له. بصرف النظر عن كلمات أيُّوب: "يَهْوَه أَعْطَى وَيَهْوَه أَخَذَ، فَلْيَكُنِ ٱسْمُ يَهْوَه مُبَارَكًا"، لا يُدرِك الناس أيًّا من جوانب برّ أيُّوب الذي امتدحه الله، ولهذا فإن تقييم أيُّوب من قبل الغالبية العظمى منهم ليس أكثر من عدم فهمٍ وسوء فهمٍ وشكٍّ وإدانةٍ واستحسان من الناحية النظريّة فقط. لا يمكن لأحدٍ منهم أن يفهم كلمات يهوه الله حقًّا ويُقدّرها بأن أيُّوب كان رجلًا كاملًا مستقيمًا يتّقي الله ويحيد عن الشرّ.

استنادًا إلى انطباع الناس عن أيُّوب كما ورد أعلاه، فإن لديهم المزيد من الشكوك فيما يتعلّق ببرّه، لأن تصرّفات أيُّوب وسلوكه المُسجّل في الكتاب المُقدّس لم تكن مُؤثّرة تأثيرًا بالغًا كما تصوّر الناس. لم يقتصر الأمر على عدم أدائه أيّة أعمالٍ عظيمة، ولكنه أيضًا أخذ لنفسه شقفةً ليحتكّ بها وهو جالسٌ في وسط الرماد. هذا العمل أيضًا يُحيّر الناس ويدفعهم للشكّ في برّ أيُّوب – وحتّى إنكاره – لأنه بينما كان أيُّوب يحكّ جسمه لم يكن يُصلّي إلى الله أو يقدم وعودًا لله، وإضافة إلى ذلك، لم ينظره أحد وهو يمسح دموع الألم. في هذا الوقت، لا يرى الناس سوى ضعف أيُّوب ولا شيء سواه، وهكذا حتّى عندما يسمعون أيُّوب يقول: "أَٱلْخَيْرَ نَقْبَلُ مِنْ عِنْدِ ٱللهِ، وَٱلشَّرَّ لَا نَقْبَلُ؟". فإنهم لا يُبدون أيّة مبالاة، أو يقفون موقف الحيرة، ولا يزالون غير قادرين على تمييز برّ أيُّوب من كلماته. الانطباع الأساسيّ الذي تركه أيُّوب عند الناس أثناء عذاب تجاربه هو أنه لم يكن مُتذلّلًا ولا متكبّرًا. لا يرى الناس القصة وراء سلوكه التي كانت تدور أحداثها في أعماق قلبه، ولا يرون اتّقاء الله في قلبه أو التمسّك بمبدأ طريق الحيدان عن الشرّ. يجعل اتّزانه الناس يعتقدون أن كماله واستقامته لم يكونا سوى كلمات فارغة، وأن اتّقاءه الله كان مُجرّد إشاعة؛ كما أن "الضعف" الذي كشف عنه خارجيًّا يترك في الوقت نفسه انطباعًا عميقًا عليهم ويمنحهم "منظورًا جديدًا" وحتّى "فهمًا جديدًا" تجاه الرجل الذي يصفه الله بأنه كاملٌ ومستقيم. يتبرهن هذا "المنظور الجديد" و"الفهم الجديد" عندما فتح أيُّوب فمه ولعن اليوم الذي وُلِدَ فيه.

مع أن مستوى العذاب الذي تحمّله أيُّوب لا يمكن لأيّ إنسانٍ أن يتصوّره ويفهمه، إلا أنه لم ينطق بأيّة بدعةٍ، ولكنه خفّف من ألم جسده بوسائله الخاصة. وكما هو مُسجّلٌ في الكتاب المُقدّس، قال: "لَيْتَهُ هَلَكَ ٱلْيَوْمُ ٱلَّذِي وُلِدْتُ فِيهِ، وَٱللَّيْلُ ٱلَّذِي قَالَ: قَدْ حُبِلَ بِرَجُلٍ" (أيوب 3: 3). ربّما لم يُفكّر أحدٌ في أهمّيّة هذه الكلمات على الإطلاق، ورّبما يوُجد من اهتمّوا بها. من وجهة نظركم، هل تقصدون أن أيُّوب عارض الله؟ هل هذه الكلمات شكوى ضد الله؟ أعلم أن كثيرين منكم لديهم أفكارٌ مُعيّنة حول هذه الكلمات التي تحدّث بها أيُّوب ويعتقدون أنه إذا كان أيُّوب كاملًا ومستقيمًا لما كان ينبغي عليه أن يظهر أيّ ضعفٍ أو حزنٍ، ولكان بدلًا من ذلك قد واجه أيّ هجومٍ من الشيطان مواجهة إيجابيّة وابتسم حتّى في وجه إغواء الشيطان. كان يجب ألا يصدر عنه أدنى ردّ فعلٍ تجاه أيٍّ من العذابات الذي جلبها الشيطان على جسده، وكان يجب ألا يُبديَ أيًّا من المشاعر التي بداخل قلبه. كان يجب عليه حتّى أن يطلب من الله أن يجعل هذه التجارب أشدّ. هذا ما يجب أن يكشفه ويتّسم به شخصٌ راسخ يتّقي الله حقًّا ويحيد عن الشرّ. وسط هذا العذاب الشديد، لم يصدر عن أيُّوب سوى أنه لعن يوم ولادته. لم يشتكِ من الله، بل ولم تكن لديه أيّة نيّةٍ لمعارضة الله. إن قول هذا أسهل بكثيرٍ من فعله، لأنه منذ العصور القديمة وحتّى اليوم، لم يمرّ أحدٌ بمثل هذه التجارب ولم يحتمل ما تحمّله أيُّوب. ولماذا لم يتعرّض أيّ شخصٍ مطلقًا لنفس تجربة أيُّوب؟ لأنه، كما يرى الله، لا أحد يمكنه تحمّل مثل هذه المسؤولية أو التكليف، ولا أحد يمكنه أن يفعل ما فعله أيُّوب، وإضافة إلى ذلك، لا يكن ممكنًا لأحد، بصرف النظر عن لعن يوم ولادته، ألا يتخلى عن اسم الله، ويستمرّ في مباركة اسم يهوه الله، كما فعل أيُّوب عندما حلّ به مثل هذا العذاب. هل كان يمكن لأيّ شخصٍ أن يفعل هذا؟ عندما نقول هذا عن أيُّوب، هل نمدح سلوكه؟ لقد كان رجلاً كاملًا واستطاع الشهادة لله وتمكّن من طرد الشيطان مذعورًا فلم يعد يقف مرة أخرى أمام الله ليتّهم أيُّوب، فما الخطأ في مدحه؟ هل يمكن القول بأن لديكم معايير أعلى من الله؟ هل يمكن القول إن بإمكانكم التصرّف بطريقة أفضل من أيُّوب عندما تداهمكم التجارب؟ امتدح الله أيُّوب، فما الاعتراضات التي قد تكون لديكم؟

أيُّوب يلعن يوم ولادته لأنه لا يريد أن يتألّم الله بسببه

كثيرًا ما أقول إن الله ينظر إلى قلوب الناس من الداخل، أما الناس فينظرون إلى مظهر الآخرين الخارجيّ. نظرًا لأن الله ينظر قلوب الناس من الداخل، فإنه يفهم جوهرهم، في حين يُحدّد الناس جوهر بعضهم البعض بناءً على مظهرهم الخارجيّ. عندما فتح أيُّوب فمه ولعن يوم ولادته، أذهل هذا التصرّف جميع الكائنات الروحيّة، بما في ذلك أصدقاء أيُّوب الثلاثة. جاء الإنسان من لدن الله، ويجب أن يكون شاكرًا من أجل الحياة والجسد، وكذلك يوم ولادته الذي منحه إياه الله، ويجب ألا يلعنه. هذا أمرٌ يمكن لعامة الناس فهمه وتصورّه. ولأيّ أحدٍ يتبع الله، فإن هذا الفهم مُقدّسٌ ومصون، وهو حقيقةٌ لا يمكن أن تتغيّر أبدًا. ولكن أيُّوب، من ناحيةٍ أخرى، كسر القواعد: لقد لعن يوم ولادته. هذا تصرّفٌ يعتبره الناس العاديون يمثّل تجاوزًا إلى منطقةٍ محظورة. فالأمر لا يقتصر على أن أيوب لا يستحقّ تفهم الناس له وتعاطفهم معه فحسب، ولكنه لا يستحقّ أيضًا غفران الله. في الوقت نفسه، يشكّ عددٌ أكبر من الناس حتّى في برّ أيُّوب، لأنه يبدو أن فضل الله عليه جعله منغمسًا في ملذّاته ووقحًا ومتهوّرًا لدرجة أنه لم يشكر الله على مباركته إياه ورعايته خلال حياته فحسب، ولكنه أيضًا لعن يوم ولادته، طالبًا هلاك هذا اليوم. كيف يمكن وصف هذا سوى بأنه معارضة لله؟ تُقدّم مثل هذه الأمور السطحيّة للناس الدليل على إدانة تصرّف أيُّوب هذا، ولكن مَنْ يستطيع أن يعرف كيف كان أيُّوب يُفكّر في ذلك الوقت؟ ومَنْ يستطيع معرفة سبب تصرّف أيُّوب بهذه الطريقة؟ الله وحده وأيُّوب نفسه يعرفان القصة والأسباب.

عندما مدّ الشيطان يده لإيذاء عظام أيُّوب، سقط أيُّوب في براثنه، ولم تكن لديه الوسيلة للهروب أو القوّة للمقاومة. تحمّل جسده وروحه آلامًا مُبرّحة، وجعله هذا الألم على وعي تام بعدم قيمة الإنسان الذي يعيش في الجسد وضعفه وعجزه. وفي الوقت نفسه، اكتسب أيضًا تقديرًا وفهمًا عميقًا عن سبب رعاية الله للإنسان وعنايته به. أدرك أيُّوب، وهو في براثن الشيطان، أن الإنسان، الذي هو من لحمٍ ودمٍ، هو في الواقع عاجزٌ جدًّا وضعيف. عندما سقط على ركبتيه وصلّى لله، شعر وكأن الله كان يحجب وجهه مختبئًا، لأن الله وضعه بالكامل في يد الشيطان. وفي الوقت نفسه، بكى الله عليه، بل وتحسّر عليه. تألّم الله بسبب ألمه وجُرِحَ بسبب جرحه...شعر أيُّوب بألم الله، إذ كان الأمر لا يُطاق عند الله...لم يرغب أيُّوب في أن يتسبّب في المزيد من الحزن لله، ولم يرد من الله أن ينتحب عليه، فضلاً عن أنه لم يرغب في أن يرى الله يتألّم بسببه. في هذه اللحظة، لم يرد أيُّوب سوى أن يخلع نفسه من جسده ويكفّ عن تحمّل الألم الذي ينهش في هذا الجسد، لأن هذا سوف يوقف عذاب الله على ألمه. ومع ذلك، لم يستطع ذلك، وكان عليه أن يتحمّل ليس فقط آلام الجسد ولكن أيضًا عذاب عدم الرغبة في أن يُسبّب القلق لله. هذان الألمان – ألم الجسد وألم الروح – تسبّبا في ألمٍ مُبّرح يُمزّق القلب عند أيُّوب، وجعله يشعر كيف أن محدوديّة الإنسان المكوّن من لحمٍ ودمٍ يمكن أن تجعل المرء يشعر بالإحباط والعجز. في هذه الظروف، ازداد شوقه إلى الله كثيرًا، وتعمّق كرهه للشيطان. في هذا الوقت، فضّل أيُّوب ألا يكون قد وُلِدَ في عالم البشر، وألا يكون قد وُجِدَ من الأساس، عن أن يرى الله يبكي دموعًا أو يشعر بالألم من أجله. بدأ يكره جسده كرهًا شديدًا، ويلفظ نفسه ويسأم منها ومن يوم ولادته وحتّى من كل ما كان يرتبط به. لم يرغب في أن يُوجد أي ذكرٍ آخر ليوم ولادته أو أي شيءٍ له علاقة به، ولذلك فتح فمه ولعن يوم ولادته: "لَيْتَهُ هَلَكَ ٱلْيَوْمُ ٱلَّذِي وُلِدْتُ فِيهِ، وَٱللَّيْلُ ٱلَّذِي قَالَ: قَدْ حُبِلَ بِرَجُلٍ. لِيَكُنْ ذَلِكَ ٱلْيَوْمُ ظَلَامًا. لَا يَعْتَنِ بِهِ ٱللهُ مِنْ فَوْقُ، وَلَا يُشْرِقْ عَلَيْهِ نَهَارٌ" (أيوب 3: 3-4). تحمل كلمات أيُّوب لفظه لنفسه: "لَيْتَهُ هَلَكَ ٱلْيَوْمُ ٱلَّذِي وُلِدْتُ فِيهِ، وَٱللَّيْلُ ٱلَّذِي قَالَ: قَدْ حُبِلَ بِرَجُلٍ"، وكذلك ما شعر به من تأنيب لنفسه وإحساسه بالذنب لأنه تسبّب في شعور الله بالألم: "لِيَكُنْ ذَلِكَ ٱلْيَوْمُ ظَلَامًا. لَا يَعْتَنِ بِهِ ٱللهُ مِنْ فَوْقُ، وَلَا يُشْرِقْ عَلَيْهِ نَهَارٌ". هذان المقطعان هما التعبير النهائيّ عن شعور أيُّوب في ذلك الوقت، وهما يُظهِران كماله واستقامته للجميع. وفي الوقت نفسه، مثلما تمنّى أيُّوب، سما إيمانه بالله وطاعته إياه وكذلك اتّقاؤه إياه. وبالطبع، فإن هذا السمو هو بالضبط النتيجة التي توقّعها الله.

أيُّوب يهزم الشيطان ويصبح رجلًا حقيقيًّا في نظر الله

عندما خضع أيُّوب لأول مرةٍ للتجارب، حُرِمَ من جميع ممتلكاته وجميع أولاده، لكنه لم يسقط ولم يتفوّه بأي خطيّة ضدّ الله نتيجةً لذلك. لقد تغلّب على إغواء الشيطان، وتمالك نفسه فيما يخصّ ممتلكاته الماديّة وذريته، وتغلّب على تجربة فقدان جميع ممتلكاته الدنيويّة، أي أنه تمكّن من طاعة الله رإذْ أخذ الأشياء منه واستطاع أن يقدم الشكر والحمد لله بسبب ما فعله الله. كان هذا هو سلوك أيُّوب أثناء الإغواء الأول من الشيطان، وكان أيضًا شهادة أيُّوب أثناء التجربة الأولى من الله. في التجربة الثانية، مدّ الشيطان يده لإيذاء أيُّوب، ومع أن أيُّوب اختبر ألمًا أشدّ مما شعر به من قبل، إلا أن شهادته كانت كافية لترك الناس في حالة ذهولٍ. لقد استخدم ثباته وقناعته وطاعته لله، وكذلك اتّقاءه الله، لهزيمة الشيطان مرةً أخرى، كما أن سلوكه وشهادته كانا مصدر قبولٍ واستحسان من الله. خلال هذا الإغواء، استخدم أيُّوب سلوكه الفعليّ ليُصرّح للشيطان بأن ألم الجسد لا يستطيع أن يُغيّر إيمانه وطاعته لله، أو ينزع أمانته لله واتّقاءه إياه. إنه لن يُجدّف على الله أو يتخلّى عن كماله واستقامته لأنه واجه الموت. عزيمة أيُّوب جعلت الشيطان جبانًا، وإيمانه جعل الشيطان مرعوبًا مرتعدًا، كما أن شدة كفاحه للشيطان أثناء معركة الحياة والموت بينهما ولّدت في الشيطان كراهيةٌ واستياء عميقين، وكماله واستقامته لم يتركا للشيطان أيّ شيءٍ آخر يمكن أن يفعله معه، ولهذا تخلّى الشيطان عن هجماته عليه وعن اتّهاماته التي رفعها ضدّه أمام يهوه الله. وهذا يعني أن أيُّوب تغلّب على العالم، وتغلّب على الجسد، وتغلّب على الشيطان، وتغلّب على الموت. لقد كان واحدًا من رجال الله بمعنى الكلمة. خلال هاتين التجربتين، ثبت أيُّوب في شهادته وعاش في الواقع بحسب كماله واستقامته، ووسّع نطاق مبادئ عيشه لاتّقاء الله والحيدان عن الشرّ. بعد أن خضع أيُّوب لهاتين التجربتين، تولّدت فيه تجربةٌ أكثر ثراءً، وجعلته هذه التجربة أكثر نضجًا وحنكة وأشدّ قوّة وأكثر إيمانًا وثقةً في برّ الاستقامة التي تمسّك بها واستحقاقها. منحت تجارب يهوه الله أيُّوب فهمًا عميقًا وشعورًا باهتمام الله بالإنسان، وسمحت له بإدراك عظمة محبّة الله، ومنها أُضيف تقديره لله ومحبّته له إلى خشيته منه. لم تتسبب تجارب يهوه الله في عدم إبعاد أيُّوب عنه فحسب، ولكنها جعلت قلبه أقرب إلى الله. عندما بلغ الألم الجسديّ الذي تحمّله أيُّوب ذروته، فإن القلق الذي شعر به من يهوه الله لم يترك له أيّ خيارٍ سوى أن يلعن يوم ولادته. لم يكن هذا السلوك مُخطّطًا له منذ فترةٍ طويلة، ولكنه إعلانٌ طبيعيّ عن احترامه لله ومحبّته له من داخل قلبه، كان إعلانًا طبيعيًّا نتج عن احترامه لله ومحبّته له. وبعبارة أخرى، لأن أيُّوب لفظ نفسه، ولم يكن راغبًا في مضايقة الله، ولم يكن قادراً على ذلك، فإن احترامه ومحبّته وصلا إلى نقطة إنكار الذات. في هذا الوقت، سما أيُّوب بتعبّده طويل الأمد لله وحنينه إليه وتكريسه له إلى مستوى الاحترام والمحّبة. وفي الوقت نفسه، سما أيضًا بإيمانه وطاعته لله واتّقائه إياه إلى مستوى الاحترام والمحبّة. لم يسمح لنفسه بفعل أيّ شيءٍ من شأنه أن يضرّ الله، ولم يسمح لنفسه بأيّ تصرّفٍ من شأنه أن يؤلم الله، ولم يسمح لنفسه بأن يجلب أيّ حزنٍ أو أسف أو حتّى تعاسة على الله لأسبابه الخاصة. في نظر الله، مع أن أيُّوب ظل هو أيوب نفسه كما كان سابقًا، إلا أن إيمانه بالله وطاعته له واتّقاءه إياه جلبت الرضا والسرور الكاملين لقلب الله. كان أيُّوب في هذا الوقت قد بلغ الكمال الذي توقّعه الله إذ أصبح شخصًا يستحقّ حقًّا أن يُدعى "كاملًا ومستقيمًا" في نظر الله. وسمحت له أعماله الصالحة بالتغلّب على الشيطان والثبات في شهادته لله. وكذلك جعلته أعماله الصالحة كاملًا، وسمحت بسموّ قيمة حياته وسموّه أكثر من أيّ وقتٍ مضى، كما جعلته أيضًا أول شخصٍ لا يتعرّض لهجوم وإغواء الشيطان بعد ذلك. لأن أيُّوب كان مستقيمًا، اتّهمه الشيطان وأغواه. ولأن أيُّوب كان بارًا، سُلّمَ إلى الشيطان، ولأن أيُّوب كان بارًا، تغلّب على الشيطان وهزمه وثبت في شهادته. وبذلك أصبح أيُّوب الرجل الأول الذي لن يُسلّم مرةً أخرى إلى الشيطان، ومَثَل حقًّا أمام عرش الله، وعاش في النور في ظلّ بركات الله دون تجسّس الشيطان أو تخريبه...أصبح رجلًا حقيقيًّا في نظر الله وتحرّر...

خلفيّةٌ عن أيُّوب

بعد أن عرفتم كيف اجتاز أيُّوب التجارب، من المُرجّح أن معظمكم يريدون معرفة المزيد من التفاصيل عن أيُّوب نفسه، وخصوصًا فيما يتعلّق بالسرّ الذي اكتسب به مديح الله. ولذلك دعونا نتحدّث اليوم عن أيُّوب!

في حياة أيُّوب اليوميّة نرى كماله واستقامته واتّقاءه الله وحيدانه عن الشرّ

إذا كنا بصدد بحث شخصيّة أيُّوب، فيتعيّن أن نبدأ بتقييمه من فم الله: "لَيْسَ مِثْلُهُ فِي ٱلْأَرْضِ. رَجُلٌ كَامِلٌ وَمُسْتَقِيمٌ، يَتَّقِي ٱللهَ وَيَحِيدُ عَنِ ٱلشَّرِّ".

دعونا نتعرّف أولًا على كمال أيُّوب واستقامته.

ما فهمكم للكلمتين "كاملًا" و"مستقيمًا"؟ هل تعتقدون أن أيُّوب كان مستقيمًا وبلا عيبٍ؟ سوف يكون هذا، بالطبع، تفسيرًا وفهمًا حرفيّين للكلمتين "كاملًا" و"مستقيمًا". لكن سياق الحياة الحقيقية يتكامل مع فهم حقيقي لأيوب: أي أن الكلمات والكتب والنظريّات وحدها لن تُقدّم أيّة إجاباتٍ. سوف نبدأ بالنظر إلى حياة أيُّوب في بيته، وإلى سلوكه المعتاد خلال حياته. سوف يُخبِرنا هذا عن مبادئه وأهدافه في الحياة، وكذلك عن شخصيّته وسعيه. دعونا الآن نقرأ الكلمات الأخيرة من أيوب 1: 3: "فَكَانَ هَذَا ٱلرَّجُلُ أَعْظَمَ كُلِّ بَنِي ٱلْمَشْرِقِ". تفيد هذه الكلمات بأن وضع أيُّوب ومكانته كانا مرتفعين للغاية، ومع أننا لا نعرف ما إذا كان سبب كونه أعظم رجال المشرق هو أملاكه الوفيرة أم لأنه كان كاملًا ومستقيمًا يتّقي الله ويحيد عن الشرّ، إلا إننا نعرف عمومًا أن وضع أيُّوب ومكانته كانا مصدر تقديرٍ كبير. وكما هو مُسجّلٌ في الكتاب المُقدّس، كانت الانطباعات الأولى لدى الناس عن أيُّوب هي أنه كان كاملًا ومستقيمًا يتّقي الله ويحيد عن الشرّ وأنه كان يمتلك ثروةً كبيرة ومكانةً مُوقّرة. بالنسبة لشخصٍ عاديّ يعيش في بيئةٍ كهذه وفي ظلّ مثل هذه الظروف، سوف يكون أسلوب حياة أيُّوب ونوعيّتها ومختلف جوانب حياته الشخصيّة محطّ أنظار معظم الناس؛ ومن ثمَّ، ينبغي علينا مواصلة قراءة الكتاب المُقدّس: "وَكَانَ بَنُوهُ يَذْهَبُونَ وَيَعْمَلُونَ وَلِيمَةً فِي بَيْتِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي يَوْمِهِ، وَيُرْسِلُونَ وَيَسْتَدْعُونَ أَخَوَاتِهِمِ ٱلثَّلَاثَ لِيَأْكُلْنَ وَيَشْرَبْنَ مَعَهُمْ. وَكَانَ لَمَّا دَارَتْ أَيَّامُ ٱلْوَلِيمَةِ، أَنَّ أَيُّوبَ أَرْسَلَ فَقَدَّسَهُمْ، وَبَكَّرَ فِي ٱلْغَدِ وَأَصْعَدَ مُحْرَقَاتٍ عَلَى عَدَدِهِمْ كُلِّهِمْ، لِأَنَّ أَيُّوبَ قَالَ: "رُبَّمَا أَخْطَأَ بَنِيَّ وَجَدَّفُوا عَلَى ٱللهِ فِي قُلُوبِهِمْ". هَكَذَا كَانَ أَيُّوب يَفْعَلُ كُلَّ ٱلأَيَّامِ" (أيوب 1: 4-5). يُخبِرنا هذا المقطع عن أمرين: الأول هو أن أبناء أيُّوب وبناته كانوا يعملون بانتظامٍ وليمةً حافلة بوفرة من الأكل والشرب؛ والثاني هو أن أيُّوب كان كثيرًا ما يُصعِد محرقات لأنه كان كثيرًا ما يقلق على أولاده وبناته خوفًا من أن يكونوا يرتكبون الخطايا أو يجدّفون على الله في قلوبهم. تصف هذه الكلمات حياة نوعين مختلفين من الناس. الأول، أبناء أيُّوب وبناته الذين كانوا كثيرًا ما يعقدون الولائم بفضل ثرائهم، ويعيشون في بذخٍ، ويشربون الخمر ويأكلون الطعام بحسب شهوة قلوبهم، ويستمتعون بجودة الحياة التي جلبتها الثروة الماديّة. كان من المحتوم في ظلّ هذه الحياة أنهم في كثيرٍ من الأحيان يُخطِئون ويُجدّفون على الله – ومع ذلك لم يُقدّسوا أنفسهم أو يُقدّموا محرقات. ترى، إذًا، أن الله لم يكن له مكانٌ في قلوبهم، وأنهم لم يُفكّروا في نعمة الله، أو يخافوا من الإساءة إلى الله، كما لم يخافوا من التجديف على الله في قلوبهم. بالطبع، لا ينصبّ تركيزنا على أبناء أيُّوب، ولكن على ما عمله أيُّوب عند مواجهة مثل هذه الأشياء؛ هذه هي المسألة الأخرى الموصوفة في المقطع، والتي تتضمّن حياة أيُّوب اليوميّة وجوهر إنسانيّته. وحيثما يصف الكتاب المُقدّس وليمة أبناء أيُّوب وبناته، فإنه لا يذكر أيُّوب؛ يكتفي بالقول إن أبناءه وبناته يأكلون ويشربون معًا. وهذا يعني أنه لم يكن يعقد ولائم أو يشترك مع أبنائه وبناته في تناول الطعام بإسرافٍ. ومع ثراء أيُّوب وامتلاكه الكثير من الأموال والعبيد، لم تكن حياته مترفة. لم تخدعه بيئته المعيشيّة الفاخرة، ولم يدفعه ثراؤه إلى أن يُتخِم نفسه بمسرّات الجسد أو ينسى أن يُقدّم محرقات، فضلًا عن أن تتسبب في حيدانه عن الله تدريجيًّا في قلبه. من الواضح إذًا أن أيُّوب كان منضبطًا في أسلوب حياته، ولم يكن جشعًا أو جاريًا خلف الملذات نتيجةً لبركات الله له، ولم يركز على نوعية الحياة، ولكن بدلًا من ذلك، كان أيُّوب متواضعًا بسيطًا، ولم يكن من عادته التباهي، وكان حذرًا وحريصًا أمام الله، وكان كثيرًا ما يُفكّر في نعم الله وبركاته، وكان يتّقي الله باستمرارٍ. كان أيُّوب في حياته اليوميّة كثيرًا ما ينهض مبكّرًا لإصعاد محرقاتٍ عن أبنائه وبناته. وهذا يعني أن أيُّوب لم يكن يتّقي الله وحسب، بل كان يأمل أيضًا أن يتّقي أولاده الله وألا يُخطِئوا أمام الله بالمثل. لم تشغل ثروة أيُّوب الماديّة مكانًا في قلبه، ولم تحلّ محل الله؛ فسواء كان ذلك من أجل نفسه أو أولاده، كانت جميع أعمال أيُّوب اليوميّة مرتبطة باتّقاء الله والحيدان عن الشرّ. لم يتوقّف اتّقاؤه يهوه الله عند مستوى كلام فمه، بل كان شيئًا وضعه موضع التنفيذ، وانعكس في كلّ جانبٍ من جوانب حياته اليوميّة. يُبيّن لنا هذا السلوك الفعليّ من أيُّوب أنه كان صادقًا ويتمتّع بشخصيّةٍ تحبّ العدالة والأمور الإيجابيّة. كان معنى أن أيُّوب يُرسِل ويُصعِد محرقات عن أبنائه وبناته أنه لم يكن مُؤيّدًا لسلوك أولاده أو موافقًا عليه؛ ولكنه بدلًا من ذلك كان قد شعر في قلبه بالإحباط من سلوكهم وأدانهم. استنتج أن سلوك أبنائه وبناته لم يكن مُرضيًا ليهوه الله، ولهذا كان كثيرًا ما يدعوهم للذهاب إلى يهوه الله والاعتراف بخطاياهم. تُظهِر لنا أعمال أيُّوب جانبًا آخر من إنسانيّته: فهو لم يسلك قط مع أولئك الذين غالبًا ما يُخطِئون أمام الله ويُجدّفون عليه، ولكنه كان يتجنّبهم ويتفاداهم بدلًا من ذلك. ومع أن هؤلاء الأشخاص كانوا أبناء أيُّوب وبناته، فإنه لم يتخلّ عن مبادئه في السلوك؛ لأنهم كانوا أهله، كما أنه لم يتساهل مع خطاياهم بسبب مشاعره. ولكنه بدلًا من ذلك حثّهم على الاعتراف ونيل غفران يهوه الله، وحذّرهم من ألا يتركوا الله من أجل تنعّمهم الشره. لا يمكن فصل مبادئ كيفيّة تعامل أيُّوب مع الآخرين عن مبادئ اتّقائه الله وحيدانه عن الشرّ. كان يحبّ ما يقبله الله ويلفظ ما يكرهه الله، ويحب أولئك الذين يتّقون الله في قلوبهم ويلفظ أولئك الذين يرتكبون الشرّ أو يُخطِئون أمام الله. ظهرت هذه المحبّة والكراهية في حياته اليوميّة، وكانتا تُمثّلان استقامة أيُّوب في نظر الله. وبطبيعة الحال، هذا هو أيضًا تعبير أيُّوب عن إنسانيّته الحقيقيّة والعيش وفقًا لها في علاقاته مع الآخرين في حياته اليوميّة، والتي ينبغي أن نتعلّم عنها.

مظاهر إنسانيّة أيُّوب أثناء تجاربه (فهم كمال أيُّوب واستقامته واتّقاءه الله وحيدانه عن الشرّ أثناء تجاربه)

ذكرنا أعلاه الجوانب المختلفة لإنسانيّة أيُّوب التي ظهرت في حياته اليوميّة قبل تجاربه. تُوفّر هذه المظاهر المختلفة دون شكٍّ معرفةً وفهمًا مبدئيّين لاستقامة أيُّوب واتّقائه الله وحيدانه عن الشرّ، وتُوفّر بطبيعة الحال تأكيدًا مبدئيًّا. والسبب في أنني أقول "مبدئيًّا" هو أن معظم الناس ما زالوا لا يفهمون شخصيّة أيُّوب فهمًا حقيقيًّا ودرجة سعيه في طريق طاعة الله واتّقائه. وهذا يعني أن فهم معظم الناس لأيُّوب لا يبلغ أعمق من الانطباع الجيّد إلى حدٍّ ما عنه والذي تعبر عنه فقرتان في الكتاب المُقدّس تتضمنان كلماته: "يَهْوَه أَعْطَى وَيَهْوَه أَخَذَ، فَلْيَكُنِ ٱسْمُ يَهْوَه مُبَارَكًا"، و"أَٱلْخَيْرَ نَقْبَلُ مِنْ عِنْدِ ٱللهِ، وَٱلشَّرَّ لَا نَقْبَلُ؟". ومن ثمَّ، نحن في أمسّ الحاجة لفهم الجانب الإنسانيّ من شخصيّة أيُّوب عندما تعرّض لتجارب الله؛ وبهذه الطريقة، سوف تتضّح للجميع إنسانيّة أيُّوب الحقيقيّة بمجمل تفاصيلها.

عندما سمع أيُّوب خبر نهب ممتلكاته وفقدان أبنائه وبناته ومقتل عبيده، كان ردّ فعله على النحو التالي: "فَقَامَ أَيُّوبُ وَمَزَّقَ جُبَّتَهُ، وَجَزَّ شَعْرَ رَأْسِهِ، وَخَرَّ عَلَى ٱلْأَرْضِ وَسَجَدَ" (أيوب 1: 20). تُخبِرنا هذه الكلمات حقيقةً واحدة: بعد سماع هذه الأخبار لم يكن أيُّوب مذعورًا، ولم يصرخ، ولم يلقِ باللوم على العبيد الذين أبلغوه بالأخبار، فضلاً عن أنه لم يُفتّش مسرح الجريمة للتحقّق والتأكّد من التفاصيل ومعرفة ما حدث بالفعل. لم يُظهِر أيّ ألمٍ أو ندم على فقدان ممتلكاته، ولم يَنْهَر باكيًا بسبب فقدان أولاده وأحبائه. ولكنه على العكس مزّق جبّته وجزّ شعر رأسه وخرّ على الأرض وسجد. تختلف أفعال أيُّوب عن أفعال أيّ إنسانٍ عاديّ. إنها تُربِك الكثير من الناس وتجعلهم يُوبّخون أيُّوب في قلوبهم بسبب "غلاظة قلبه". عندما يفقد الناس العاديّون ممتلكاتهم فجأةً، قد يبدون مكتئبين أو يائسين وقد يسقط بعض الناس في حالة اكتئابٍ شديد. يعود السبب وراء ذلك إلى أن الناس يرون، في قلوبهم، أن ممتلكاتهم تُمثّل تعب حياتهم وأساس بقائهم والأمل الذي يُبقِيهم على قيد الحياة؛ أمّا خسارة ممتلكاتهم فتعني أن جهودهم كانت بدون مقابل وأنهم بلا أملٍ وحتّى بلا مستقبلٍ. هذا هو موقف أيّ شخصٍ طبيعيّ تجاه ممتلكاته وعلاقته الوثيقة التي تربطه بها، وهو أيضًا أهميّة الممتلكات في أعين الناس. على هذا النحو، تشعر الغالبيّة العظمى من الناس بالارتباك بسبب موقف أيُّوب اللامبالي تجاه فقدان ممتلكاته. واليوم سوف نزيل الارتباك الذي شعر به جميع هؤلاء الأشخاص من خلال شرح ما كان يجري في قلب أيُّوب.

يقتضي المنطق السليم أنه بعد أن وهب الله أيُّوب مثل هذه الممتلكات الوفيرة يجب أن يشعر بالخجل أمام الله بسبب فقدانه هذه الممتلكات، لأنه لم يرعها أو يعتني بها ولم يحتفظ بالممتلكات التي منحها له الله. وهكذا، عندما جاءه خبر سرقة ممتلكاته، كان ينبغي أن يكون ردّ فعله الأول هو الذهاب إلى مسرح الجريمة وجَرْد كلّ شيءٍ كان قد فقده، ومن ثمّ الاعتراف بالله لعلّه يتمكّن مرةً أخرى من نيل بركات الله. ومع ذلك، لم يفعل أيُّوب هذا – وكان من الطبيعيّ أن تكون لديه أسبابه الخاصة لعدم عمل ذلك. كان أيُّوب يؤمن إيمانًا عميقًا في قلبه أن جميع ما يملكه قد منحه إياه الله، ولم يكن نتيجةً لعمل يديه. وهكذا، لم يعتبر هذه البركات كشيءٍ يعتمد عليه، ولكنه بدلًا من ذلك أرسى مبادئ بقائه في التمسّك بكل قوّته بالطريق الذي ينبغي التمسك به. كان يُقدّر بركات الله ويشكره عليها، ولكنه لم يكن مولَعًا بالبركات، ولم يطلب المزيد منها. كان هذا هو موقفه تجاه الممتلكات. لم يفعل شيئًا لنيل البركات، ولم يقلق أو يغضب بسبب نقص بركات الله أو فقدانها. لم يكن سعيدًا لدرجة الهوس والهذيان بسبب بركات الله، ولم يُهمِل طريق الله أو ينس نعمة الله بسبب البركات التي تنعّم بها كثيرًا. يكشف موقف أيُّوب تجاه ممتلكاته للناس إنسانيّته الحقيقيّة: أولًا، لم يكن أيُّوب رجلًا جشعًا، بل كان قنوعًا في حياته الماديّة. وثانيًا، لم يقلق أيُّوب قط ولم يخشَ من أن يحرمه الله من كلّ ما كان لديه، وهو موقف طاعته لله في قلبه؛ وهذا يعني أنه لم تكن لديه أيّة مطالب أو شكاوى حول متى أو ما إذا كان الله سيأخذ منه، ولم يسأل عن السبب، ولكنه اكتفى بالسعي لطاعة ترتيبات الله. ثالثًا، لم يعتقد قط أن ممتلكاته جاءت من تعب يديه، بل إن الله منحه إياها. كان هذا إيمان أيُّوب بالله ومؤشرًا على قناعته. هل اتّضحت إنسانيّة أيُّوب وسعيه اليوميّ الحقيقيّ في هذا المُلخّص المكوّن من ثلاث نقاطٍ عنه؟ كانت إنسانيّة أيُّوب وسعيه جزءًا لا يتجزأ من سلوكه الهادئ عندما واجهته خسارة ممتلكاته. كان السبب بالضبط وراء أن يكون لدى أيُّوب القامة والقناعة ليقول: "يَهْوَه أَعْطَى وَيَهْوَه أَخَذَ، فَلْيَكُنِ ٱسْمُ يَهْوَه مُبَارَكًا"، أثناء تجارب الله هو سعيه اليومي. لم تُكتسب هذه الكلمات بين عشيّةٍ وضحاها، ولم تخطر للتوّ على عقل أيُّوب، بل كانت تُمثّل ما رآه واكتسبه خلال سنواتٍ عديدة من اختبار الحياة. بالمقارنة بجميع مَنْ لا يطلبون سوى بركات الله، ويخشون أن يأخذها الله منهم كارهين هذا الأمر وشاكين منه، أليست طاعة أيُّوب واقعيّة للغاية؟ وبالمقارنة بجميع مَنْ يؤمنون بوجود الله ولكنهم لم يؤمنوا قط بأن الله يسود على جميع الأشياء، ألا يتّسم أيُّوب بأمانةٍ وبرٍّ عظيمين؟

عقلانيًة أيُّوب

كانت خبرات أيُّوب الفعليّة وإنسانيتّه البارّة الصادقة تعني أنه اتّخذ أكثر القرارات والخيارات عقلانيّةً عندما فقد ممتلكاته وأولاده. كانت هذه الخيارات العقلانيّة لا يمكن فصلها عن سعيه اليوميّ وأعمال الله التي عرفها خلال حياته اليوميّة. أمانة أيُّوب جعلته قادرًا على الإيمان بأن يد يهوه الله تسود على جميع الأشياء؛ وسمح له إيمانه بمعرفة حقيقة سيادة يهوه على جميع الأشياء؛ كما أن معرفته جعلته راغبًا في طاعة سيادة يهوه الله وترتيباته وقادرًا على الامتثال لها؛ ومكّنته طاعته من أن يكون أكثر صدقًا في اتّقائه يهوه الله؛ وجعله اتّقاؤه أكثر واقعيّة في الحيدان عن الشرّ؛ وفي نهاية المطاف، أصبح أيُّوب كاملًا لأنه كان يتّقي الله ويحيد عن الشرّ؛ وكماله جعله حكيمًا، ومنحه أكبر قدرٍ من العقلانيّة.

كيف يجب أن نفهم كلمة "عقلانيّ"؟ التفسير الحرفيّ هو أنها تعني أن يتّسم المرء بالمنطق السليم، ويكون منطقيًّا وراشدًا في تفكيره، وأن يكون كلامه وأفعاله سليمة وحكمه راجحًا، وأن يمتلك معايير أخلاقيّة سليمة ومتناسقة. ومع ذلك، لا يمكن تفسير عقلانيّة أيُّوب بسهولةٍ. عندما يقال هنا إن أيُّوب كان يملك أكبر قدرٍ من العقلانيّة، فإن هذا يتعلّق بإنسانيّته وسلوكه أمام الله. فلأن أيُّوب كان صادقًا، استطاع أن يؤمن بسيادة الله ويطيعها، مما منحه المعرفة التي لم يتمكّن آخرون من نيلها، وهذه المعرفة جعلته قادرًا على تمييز ما أصابه والحكم عليه وتحديده بدقة، ومكّنته من أن يختار بتفكيرٍ ثاقب أدقّ ما يجب أن يعمله وما يجب أن يتمسّك به. وهذا يعني أن كلماته وسلوكه والمبادئ التي تستند عليها أفعاله والطريقة التي تصرّف بها كانت منتظمة وواضحة ومُحدّدة ولم تكن هوجاء أو متهوّرة أو عاطفيّة. لقد عرف كيفيّة التعامل مع كلّ ما أصابه، وعرف كيفيّة إحداث توازن في العلاقات بين الأحداث المُعقّدة وكيفية التعامل معها، وعرف كيفيّة التمسّك بالطريق الذي يجب التمسّك به، وإضافة إلى ذلك، عرف كيفيّة التعامل مع ما يعطيه يهوه الله وما يأخذه. كانت هذه عقلانيّة أيُّوب. وبفضل أن أيُّوب كان مجهّزًا بمثل هذه العقلانيّة قال: "يَهْوَه أَعْطَى وَيَهْوَه أَخَذَ، فَلْيَكُنِ ٱسْمُ يَهْوَه مُبَارَكًا"، عندما فقد ممتلكاته وأبناءه وبناته.

عندما واجه أيُّوب الألم البدنيّ الهائل، واستنكارات أهله وأصدقائه، وعندما واجه الموت، أظهر سلوكه الفعليّ مرةً أخرى وجهه الحقيقيّ لجميع الناس.

الوجه الحقيقيّ لأيُّوب: صادقٌ ونقيّ وبلا رياءٍ

دعونا نقرأ أيوب 2: 7-8: "فَخَرَجَ ٱلشَّيْطَانُ مِنْ حَضْرَةِ ٱلرَّبِّ، وَضَرَبَ أَيُّوبَ بِقُرْحٍ رَدِيءٍ مِنْ بَاطِنِ قَدَمِهِ إِلَى هَامَتِهِ. فَأَخَذَ لِنَفْسِهِ شَقَفَةً لِيَحْتَكَّ بِهَا وَهُوَ جَالِسٌ فِي وَسْطِ ٱلرَّمَادِ". هذا وصفٌ لسلوك أيُّوب عندما انتشرت التقرُّحات المؤلمة على جسده. في هذا الوقت جلس أيُّوب في الرماد لأنه كان يعاني من الألم. لم يعالجه أحدٌ أو يساعده على تخفيف ألم جسده؛ وبدلًا من ذلك، استخدم شقفة ليحكَّ بها سطح الدمامل. من الناحية الظاهريَّة، لم تكن هذه سوى مرحلة من مراحل عذاب أيُّوب، ولا علاقة لها بإنسانيَّته واتِّقائه الله، لأن أيُّوب لم ينطق أيَّة كلماتٍ للتعبير عن حالته النفسيَّة ووجهات نظره في هذا الوقت. ومع ذلك، لا تزال أعمال أيُّوب وسلوكه تعبيرًا حقيقيًّا عن إنسانيَّته. قرأنا في سجل الفصل السابق أن أيُّوب كان أعظم جميع رجال المشرق. وفي الوقت نفسه، يُبيِّن لنا هذا المقطع من الفصل الثاني أن هذا الرجل العظيم في المشرق قد أخذ بالفعل قطعة ليحكَّ بها نفسه وهو جالسٌ في وسط الرماد. ألا يوجد تناقضٌ واضح بين هذين الوصفين؟ إنه تباينٌ يُظهِر لنا نفس أيُّوب الحقيقيَّة: على الرغم من وضعه ومكانته المرموقين، فإنه لم يكن يهوى أو يولي أيَّ اهتمامٍ لهذين الأمرين؛ لم يهتم بطريقة نظر الآخرين إلى مكانته، ولم يقلق حول ما إذا كانت أفعاله أو سلوكه سيكون لهما أيُّ تأثيرٍ سلبيٍّ على مكانته؛ ولم ينغمس في منافع المكانة، ولم يستمتع بالمجد الذي كان يصاحب المكانة والوضع. لم يهتم سوى بقيمته وأهميَّة العيش في نظر يهوه الله. كانت نفس أيُّوب الحقيقيَّة هي جوهره: لم يحب الشهرة والثروة، ولم يعش من أجل الشهرة والثروة؛ ولكنه كان صادقًا ونقيًّا وبلا رياءٍ.

فصل أيُّوب بين المحبّة والكراهية

يظهر جانبٌ آخر من إنسانيّة أيُّوب في هذا الحوار بينه وبين زوجته: "فَقَالَتْ لَهُ ٱمْرَأَتُهُ: "أَنْتَ مُتَمَسِّكٌ بَعْدُ بِكَمَالِكَ؟ بَارِكِ ٱللهَ وَمُتْ!". فَقَالَ لَهَا: "تَتَكَلَّمِينَ كَلَامًا كَإِحْدَى ٱلْجَاهِلَاتِ! أَٱلْخَيْرَ نَقْبَلُ مِنْ عِنْدِ ٱللهِ، وَٱلشَّرَّ لَا نَقْبَلُ؟" (أيوب 2: 9-10). رأت زوجة أيُّوب العذاب الذي كان يعاني منه، فحاولت إسداء النصيحة له لمساعدته على الهروب من عذابه، ولكن "نواياها الحسنة" لم تلق استحسان أيُّوب، بل بدلًا من ذلك أثارت غضبه لأن زوجته أنكرت إيمانه بيهوه الله وطاعته إياه، كما أنكرت وجود يهوه الله. كان هذا لا يُطاق عند أيُّوب، لأنه لم يسمح لنفسه قط أن يفعل أيّ شيءٍ يعارض الله أو يجرحه، فما بالك لو صدر عن الناس الآخرين. فكيف كان يمكنه الاستمرار في حالة من اللامبالاة بينما يرى الآخرين يُجدّفون على الله ويُهيِنونه؟ ولذلك دعا زوجته "كَإِحْدَى الْجَاهِلاَتِ". كان موقف أيُّوب تجاه زوجته يشوبه الغضب والكراهية، فضلاً عن اللوم والتوبيخ. كان هذا هو التعبير الطبيعيّ عن إنسانيّة أيُّوب في التفريق بين المحبّة والكراهية، وكان تمثيلًا حقيقيًّا لإنسانيتّه البارّة. كان أيُّوب يتّسم بحسّ العدالة – وهو ما جعله يكره رياح الشرّ، ويلفظ ويدين ويرفض البدع العبثيّة والحجج السخيفة والتأكيدات الغريبة، مما سمح له بالتمسّك بمبادئه وموقفه الصحيح عندما رفضته الجموع وهجره المُقرّبون منه.

طيبة قلب أيُّوب وأمانته

بما أنه يمكننا رؤية التعبير عن جوانب مختلفة من إنسانيّة أيُّوب في سلوكه، ما الجوانب التي نراها من إنسانيّته عندما فتح فمه ليلعن يوم ولادته؟ هذا هو الموضوع الذي سوف نشاركه أدناه.

تحدّثت أعلاه عن أصل لعن أيُّوب يوم ولادته. ماذا ترون في هذا؟ إذا كان أيُّوب قاسي القلب وخاليًا من المحبّة، وإذا كان بارد العواطف وعديم المشاعر ومنعدم الإنسانيّة، فهل كان ليراعي رغبة قلب الله؟ وهل كان ليكره يوم ولادته لأنه كان يراعي قلب الله؟ وهذا يعني أنه إذا كان أيُّوب قاسي القلب ومنعدم الإنسانيّة، فهل كان ليتضايق لألم الله؟ هل كان ليلعن يوم ولادته لأن الله تضايق بسببه؟ الجواب كلا بالتأكيد! فلأن أيُّوب كان طيب القلب، فإنه راعى قلب الله؛ ولأنه راعى قلب الله، شعر بألم الله؛ ولأنه كان طيب القلب، تحمّل عذابًا أكبر نتيجةً لشعوره بألم الله؛ ولأنه شعر بألم الله، بدأ يلفظ يوم ولادته ومن ثمَّ لعن يوم ولادته. يعتبر الغرباء أن سلوك أيُّوب بأكمله خلال تجاربه مثاليًّا. أمّا لعنه يوم ولادته فيرسم علامة استفهامٍ على كماله واستقامته، أو يُقدّم تقييمًا مختلفًا. في الواقع، كان هذا أصدق تعبيرٍ عن جوهر إنسانيّة أيُّوب. فلم يُخفِ أحدٌ آخر غيره جوهر إنسانيّته أو يُغلّفه أو يُنقّحه. عندما لعن يوم ولادته أظهر طيبة القلب والإخلاص في أعماق قلبه؛ كان مثل ينبوع ماءٍ مياهه صافية شفّافة تكشف حتّى عن قاعه.

بعد معرفة هذا كلّه عن أيُّوب، سوف يكون لدى معظم الناس بلا شكٍّ تقييمٌ دقيق وموضوعيّ إلى حدٍّ ما لجوهر إنسانيّة أيُّوب. كما يجب أن يكون لديهم فهمٌ وتقدير عميقين وعمليّين وأكثر تقدّمًا لكمال أيُّوب واستقامته اللذيْن تكلم عنهما الله. نأمل أن يساعد هذا الفهم والتقدير الناس على السلوك في طريق اتّقاء الله والحيدان عن الشرّ.

العلاقة بين تسليم الله أيُّوب إلى الشيطان وأهداف عمل الله

مع أن معظم الناس يُدرِكون الآن أن أيُّوب كان كاملًا ومستقيمًا، وأنه كان يتّقي الله ويحيد عن الشرّ، إلا أن هذا الاعتراف لا يمنحهم فهمًا أكبر لهدف الله. في الوقت نفسه الذي يحسدون فيه إنسانيّة أيُّوب ومسعاه، يسألون الله السؤال التالي: كان أيُّوب كاملًا ومستقيمًا وكان الناس يحبّونه كثيرًا، فلماذا سلّمه الله إذًا إلى الشيطان وعرّضه لعذاب رهيب؟ لا بدّ أن مثل هذه الأسئلة قابعةٌ في قلوب العديد من الناس، أو بالأحرى هذا الشكّ هو السؤال الذي يشغل قلوب العديد من الناس. وبما أنه أربك كثيرين من الناس، ينبغي علينا طرح هذا السؤال وشرحه شرحًا صحيحًا.

كلّ ما يفعله الله ضروريّ وينطوي على أهميّة استثنائيّة، لأن كلّ ما يفعله في الإنسان يتعلّق بتدبيره وخلاصه للبشريّة. وبطبيعة الحال، فإن العمل الذي أتمّه الله في أيُّوب لا يختلف عن ذلك مع أن أيُّوب كان كاملًا ومستقيمًا في نظر الله. وهذا يعني أنه بغضّ النظر عمّا يفعله الله أو الوسيلة التي يفعل بها ما يفعله، وبغضّ النظر عن الكلفة، ومهما يكن هدفه، فإن الغرض من أفعاله لا يتغيّر. إن هدفه هو أن يُشغِل الإنسان بكلام الله وكذلك بمتطلّبات الله وإرادته؛ أي أن يُشغِل الإنسان بكلّ ما يؤمن الله بأنه إيجابيٌّ وفقًا لخطواته، ممّا يُمكّن الإنسان من فهم قلب الله وإدراك جوهر الله ويسمح للإنسان بطاعة سيادة الله وترتيباته، وبذلك يسمح للإنسان ببلوغ اتّقاء الله والحيدان عن الشرّ – وهذا كله جانبٌ واحد من غرض الله في كلّ ما يفعله. الجانب الآخر هو أن الإنسان يُسلَّم غالبًا إلى الشيطان لأن الشيطان هو شخصية الضد وأداة الخدمة في عمل الله. هذه هي الطريقة التي يستخدمها الله للسماح للناس بأن يروا في غوايات الشيطان وهجماته شرّ الشيطان وقبحه وحقارته، مما يجعل الناس يكرهون الشيطان ويُمكّنهم من معرفة ما هو سلبيٌّ وإدراكه. تسمح لهم هذه العمليّة بتحرير أنفسهم تدريجيًّا من سيطرة الشيطان واتّهاماته وتدخّله وهجماته، إلى أن ينتصروا على هجمات الشيطان واتهاماته بفضل كلام الله، ومعرفتهم بالله وطاعتهم إياه، وإيمانهم به واتّقائهم إياه؛ وعندها فقط يكونون قد نجوا تمامًا من سيطرة الشيطان. تعني نجاة الناس أن الشيطان قد انهزم، وتعني أنهم لم يعودوا لقمةً سائغة في فم الشيطان، وأن الشيطان يتركهم بدلًا من أن يبتلعهم. وهذا يرجع إلى أن هؤلاء الناس مستقيمون، وأناس لديهم إيمانٍ وطاعة واتّقاء لله ولأنهم دائمًا ما يتصارعون مع الشيطان. إنهم يجلبون العار على الشيطان، ويجعلونه جبانًا، ويهزمونه هزيمةً نكراء. إن إيمانهم باتّباع الله وطاعته واتّقائه يهزم الشيطان ويجعله يستسلم لهم تمامًا. الله لا يربح سوى هذه النوعيّة من الناس، وهذا هو الهدف النهائيّ لله من خلاص الإنسان. إذا أراد جميع من يتبعون الله أن يخلصوا وأن يربحهم الله بالكامل، فإنه يتعيّن عليهم أن يواجهوا إغواء الشيطان وهجماته سواء كانت كبيرة أو صغيرة. أولئك الذين يخرجون من هذا الإغواء وهذه الهجمات ويتمكّنون من هزيمة الشيطان بالكامل هم من ينالون الخلاص من الله. وهذا يعني أن أولئك الذين يُخلّصهم الله هم الذين خضعوا لتجارب الله وتعرّضوا لإغواء الشيطان وهجومه عددًا لا يُحصى من المرات. والذين خلّصهم الله يفهمون إرادة الله ومتطلّباته، ويمكنهم الإذعان لسيادة الله وترتيباته، ولا يتخلّون عن طريق اتّقاء الله والحيدان عن الشرّ وسط إغواء الشيطان. أولئك الذين يُخلّصهم الله يملكون الصدق ويتّسمون بطيبة القلب، ويُميّزون بين المحبّة والكراهية، ولديهم حسٌّ بالعدالة وعقلانيّون، ويمكنهم مراعاة الله وتقدير كلّ ما يخصّ الله. هؤلاء الأشخاص لا يُقيّدهم الشيطان أو يتجسّس عليهم أو يشتكي عليهم أو يؤذيهم، ولكنهم أحرارٌ تمامًا إذ قد تحرّروا بالكامل وأُطلق سراحهم. كان أيُّوب رجلًا حرًّا، وهذا يُمثّل بالضبط مغزى تسليم الله إياه إلى الشيطان.

تعرّض أيُّوب لإيذاء الشيطان، لكنه نال أيضًا الحريّة والتحرير الأبديّين ونال حقّ عدم التعرّض مرةً أخرى لفساد الشيطان أو إيذائه أو اتّهاماته، بل أن يعيش بدلًا من ذلك في نور وجه الله حرًّا ودون قيودٍ، وأن يعيش في وسط بركات الله الممنوحة له. لا أحد يمكنه أن يسلب هذا الحقّ أو يُتلِفه أو يستولي عليه. لقد حصل عليه أيُّوب بفضل إيمانه وعزمه، وطاعته لله واتّقائه إياه. لقد دفع أيُّوب ثمن حياته للفوز بالفرح والسعادة على الأرض، وللفوز بالحقّ والاستحقاق، وليكون مُعيّنًا من السماء ومعترفًا به من الأرض، ولعبادة الخالق دون تدخّلٍ كمخلوقٍ حقيقيّ لله على الأرض. كان هذا أيضًا أكبر نتيجةٍ للإغواء الذي تعرّض له أيُّوب.

عندما لا يكون الناس قد نالوا الخلاص بعد، غالبًا ما يتدخّل الشيطان في حياتهم ويسيطر عليها. وهذا يعني أن الأشخاص الذين لم ينالوا الخلاص هم سجناء للشيطان، ولا يملكون الحريّة، ولم يتركهم الشيطان، كما أنهم غير مؤهلين أو مستحقّين لعبادة الله، والشيطان يلاحقهم من كثبٍ ويهاجمهم بشراسةٍ. لا يشعر مثل هؤلاء الناس بسعادة تُذكر، وليس لديهم الحقّ في وجود طبيعيّ يُذكر، وإضافة إلى ذلك ليست لديهم كرامة تُذكر. فقط إن نهضت وتصارعت مع الشيطان، مستخدمًا إيمانك بالله وطاعتك له واتّقاءك إياه باعتبارها الأسلحة التي تخوض بها معركة حياة أو موت مع الشيطان، بحيث تهزم الشيطان هزيمةً نكراء وتجعله يهرب مذعورًا ويصبح جبانًا كلّما رآك ويتوقّف تمامًا عن هجماته عليك واتّهاماته ضدّك، فعندها فقط سوف تنال الخلاص وتصبح حرًّا. إذا صمّمت على الانفصال التام عن الشيطان، ولكنك لم تكن مُجهّزًا بالأسلحة التي سوف تساعدك على هزيمة الشيطان، فسوف تظلّ في خطرٍ. ومع مرور الوقت، عندما يُعذّبك الشيطان عذابًا شديدًا بحيث لا يبقى فيك شيءٌ من القوّة، ومع ذلك لا تتمكّن أيضًا من الشهادة ولم تُحرّر نفسك تمامًا من اتّهامات الشيطان وهجماته ضدّك، فسوف يكون رجاؤك في الخلاص قليلًا. وفي النهاية، عند الإعلان عن اختتام عمل الله، سوف تظلّ في قبضة الشيطان غير قادرٍ على تحرير نفسك، ومن ثمَّ لن تُتاح لك أبدًا الفرصة أو الرجاء. وهذا يعني أن مثل هؤلاء الناس سوف يكونون بالكامل في أسر الشيطان.

اِقبل تجارب الله، وتغلّب على إغواء الشيطان، واِسمح لله بأن يمتلك كيانك بأكمله

أثناء عمل الله في عطائه الدائم للإنسان ودعمه له، فإنه يخبر الإنسان عن مجمل إرادته ومتطلّباته، ويُظهِر للإنسان أعماله وشخصيّته وما لديه وما هو عليه. والهدف هو تزويد الإنسان بالقامة، والسماح للإنسان باكتساب حقائق متنوّعة من الله في أثناء اتّباعه – وهي حقائق مثل أسلحة أعطاها الله للإنسان لمحاربة الشيطان. وبينما يكون الإنسان مُجهّزًا هكذا، ينبغي عليه أن يواجه اختبارات الله. الله لديه العديد من الوسائل والسبل لاختبار الإنسان، ولكن كلّ واحدٍ منها يتطلّب "تعاون" عدو الله: الشيطان. وهذا يعني أن الله بعد أن أعطى الإنسان الأسلحة التي يخوض بها المعركة مع الشيطان، فإنه يُسلّمه إلى الشيطان ويسمح للشيطان "باختبار" قامة الإنسان. إذا استطاع الإنسان الخروج من تشكيلات معركة الشيطان، أي إذا استطاع الإفلات من تطويق الشيطان واستمرّ على قيد الحياة، يكون الإنسان عندئذٍ قد اجتاز الاختبار. ولكن إذا أخفق الإنسان في الخروج من تشكيلات الشيطان في المعركة واستسلم للشيطان، يكون عندئذٍ قد أخفق في الاختبار. أيًّا كان جانب الإنسان الذي يفحصه الله، فإن معايير فحصه هي ما إذا كان الإنسان ثابتًا في شهادته عندما يهاجمه الشيطان أم لا، وما إذا كان قد تخلّى عن الله واستسلم وخضع للشيطان بينما كان واقعًا في شرك الشيطان أم لا. يمكن القول بأن إمكانيّة خلاص الإنسان تعتمد على ما إذا كان بمقدوره التغلّب على الشيطان وهزيمته أم لا، أمّا إمكانيّة نيله الحريّة أم لا فتعتمد على ما إذا كان بمقدوره أن يستخدم بنفسه الأسلحة التي أعطاها إياه الله ليتغلّب على عبوديّة الشيطان، مما يجعل الشيطان يتخلّى عن الأمل تمامًا ويتركه وشأنه. إذا تخلّى الشيطان عن الأمل وترك شخصًا ما، فهذا يعني أن الشيطان لن يحاول مرةً أخرى أن يأخذ هذا الشخص من الله، أو يتّهمه مرةً أخرى أو يتدخّل معه، ولن يُعذّبه مرةً أخرى أو يهاجمه بوحشية؛ وأن مثل هذا الشخص دون سواه يكون الله قد ربحه بالفعل. هذه هي العمليّة الكاملة التي بواسطتها يربح الله الناس.

الإنذار والاستنارة المُقدّمان للأجيال اللاحقة بفعل شهادة أيُّوب

في الوقت نفسه الذي يفهم فيه الناس العمليّة التي يربح بها الله شخصًا ما، سوف يفهم الناس أيضًا أهداف وأهميّة تسليم الله أيُّوب إلى الشيطان. لم يعد الناس ينزعجون من عذاب أيُّوب، ولديهم تقديرٌ جديد لأهميّته. لم يعودوا قلقين بشأن ما إذا كانوا هم أنفسهم سوف يتعرّضون لتجربة أيُّوب نفسها، ولم يعودوا يعارضون مجيء تجارب الله أو يرفضونه. كان إيمان أيُّوب وطاعته وشهادته في التغلّب على الشيطان مصدرًا كبيرًا للمساعدة والتشجيع للناس. يرى الناس في أيُّوب الرجاء لخلاصهم، ويرون أنه من خلال الإيمان بالله وطاعته واتّقائه من الممكن تمامًا هزيمة الشيطان والتغلّب عليه. يرون أنه ما داموا يذعنون لسيادة الله وترتيباته، ويملكون العزم والإيمان بعدم التخلّي عن الله بعد أن فقدوا كلّ شيءٍ، فإن بإمكانهم إلحاق العار بالشيطان وهزيمته، وهم يرون أنهم ليسوا بحاجةٍ سوى لامتلاك العزيمة والمثابرة للثبات في شهادتهم – حتّى لو كان ذلك يعني خسارة حياتهم – حتّى يرتعد الشيطان ويتراجع منسحبًا. شهادة أيُّوب تحذيرٌ للأجيال اللاحقة، وهذا التحذير يُخبِرهم بأنه إذا لم يهزموا الشيطان فلن يتمكّنوا أبدًا من تخليص أنفسهم من اتّهامات الشيطان وتدّخله، ولن يتمكّنوا أبدًا من الإفلات من إيذاء الشيطان وهجماته. وقد أنارت شهادة أيُّوب الأجيال اللاحقة. تُعلّم هذه الاستنارة الناس أنه ليس بإمكانهم اتّقاء الله والحيدان عن الشرّ إلا إذا كانوا يسلكون طريق الكمال والاستقامة. وتُعلّمهم أنه ليس بإمكانهم تقديم شهادة قويّة مدويّة لله إلا إذا اتّقوا الله وحادوا عن الشرّ. ولا يمكن أبدًا أن يسيطر عليهم الشيطان، ولا يمكنهم أن يعيشوا في ظلّ إرشاد الله وحمايته، إلا إذا تمكّنوا من تقديم شهادة قويّة مدويّة لله، وعندئذٍ فقط يكونون قد نالوا الخلاص حقًّا. يجب على كلّ مَنْ يسعى في طريق الخلاص محاكاة شخصيّة أيُّوب ومسعاه في حياته. فما حياه خلال حياته كلّها وسلوكه خلال تجاربه كنزٌ ثمين لجميع أولئك الذين يسعون في طريق اتّقاء الله والحيدان عن الشرّ.

شهادة أيُّوب تريح قلب الله

إذا أخبرتكم الآن أن أيُّوب رجلٌ محبوب، فربّما لا تتمكّنون من تقدير المعنى في هذه الكلمات، وربّما لا تقدرون على فهم المشاعر وراء السبب في أنني تحدّثت عن جميع هذه الأمور؛ ولكن انتظروا حتّى اليوم الذي تتعرّضون فيه لتجارب من نفس نوعيّة تجارب أيُّوب أو أقرب إليها، حينما تمرّون بالشدائد وتجوزون في التجارب التي رتّبها الله لكم خصّيصًا، وحينما تُقدّمون كلّ ما لكم وتحتملون الإذلال والمصاعب، من أجل التغلّب على الشيطان والشهادة لله وسط الإغواء – فحينها سوف تتمكّنون من تقدير معنى هذه الكلمات التي أتحدّث بها. في ذلك الوقت سوف تشعر أنك أقل شأنًا من أيُّوب، وسوف تشعر بمدى روعة أيُّوب وأنه يستحق المحاكاة. عندما يحين ذلك الوقت، سوف تُدرِك مدى أهميّة تلك الكلمات الكلاسيكيّة التي تحدّث بها أيُّوب لمَنْ هو فاسدٌ ويعيش في هذه الأوقات، وسوف تُدرِك مدى الصعوبة التي يواجهها الناس اليوم في بلوغ ما بلغه أيُّوب. عندما تشعر أن الأمر صعبٌ، سوف تُقدّر مدى قلق قلب الله وترقّبه، وسوف تُقدّر مدى ارتفاع الثمن الذي يدفعه الله لربح مثل هؤلاء الناس، ومدى نفاسة ما يعمله الله للبشريّة ويبذله لأجلها. الآن وبعد أن سمعتم هذه الكلمات، هل لديكم فهمٌ دقيق وتقييمٌ صحيح لأيُّوب؟ هل كان أيُّوب في نظركم كاملًا حقًّا ومستقيمًا يتّقي الله ويحيد عن الشرّ؟ أعتقد أن معظم الناس سيقولون نعم بالتأكيد. لأن حقائق ما عمله أيُّوب وكشف عنه لا يمكن لأيّ إنسانٍ أو للشيطان إنكارها. إنها أقوى دليلٍ على انتصار أيُّوب على الشيطان. ظهر هذا الدليل في أيُّوب، وكانت أول شهادةٍ يتلقّاها الله. وهكذا، عندما انتصر أيُّوب في إغواء الشيطان وشهد لله، فإن الله رأى الأمل في أيُّوب وتعزّى قلبه به. منذ زمن الخلق وحتّى زمن أيُّوب، كانت هذه هي المرة الأولى التي اختبر فيها الله حقًّا معنى التعزية ومعنى أن يُقدّم له الإنسان التعزية، وكانت هذه هي المرة الأولى التي فيها رأى وربح شهادة حقيقيّة تُقدم له.

أثق بأن غالبيّة الناس بعد أن سمعوا شهادة أيُّوب وروايات عن مختلف جوانب أيُّوب سوف تكون لديهم خططٌ للطريق الماثل أمامهم. أثق كذلك بأن معظم الناس الذين يشعرون بالقلق والخوف سوف يبدأون ببطءٍ في الاسترخاء في الجسم والعقل، وسوف يبدأون في الشعور بالارتياح شيئًا فشيئًا...

الفقرات أدناه هي أيضًا رواياتٌ حول أيُّوب. دعونا نواصل القراءة.

4. يسمع أيُّوب عن الله بسمع الأذن

(أيوب 9: 11) "هُوَذَا يَمُرُّ عَلَيَّ وَلَا أَرَاهُ، وَيَجْتَازُ فَلَا أَشْعُرُ بِهِ".

(أيوب 23: 8-9) "هَأَنَذَا أَذْهَبُ شَرْقًا فَلَيْسَ هُوَ هُنَاكَ، وَغَرْبًا فَلَا أَشْعُرُ بِهِ. شِمَالًا حَيْثُ عَمَلُهُ فَلَا أَنْظُرُهُ. يَتَعَطَّفُ ٱلْجَنُوبَ فَلَا أَرَاهُ".

(أيوب 42: 2-6) "قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ تَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ، وَلَا يَعْسُرُ عَلَيْكَ أَمْرٌ. فَمَنْ ذَا ٱلَّذِي يُخْفِي ٱلْقَضَاءَ بِلَا مَعْرِفَةٍ؟ وَلَكِنِّي قَدْ نَطَقْتُ بِمَا لَمْ أَفْهَمْ. بِعَجَائِبَ فَوْقِي لَمْ أَعْرِفْهَا. اِسْمَعِ ٱلْآنَ وَأَنَا أَتَكَلَّمُ. أَسْأَلُكَ فَتُعَلِّمُنِي. بِسَمْعِ ٱلْأُذُنِ قَدْ سَمِعْتُ عَنْكَ، وَٱلْآنَ رَأَتْكَ عَيْنِي. لِذَلِكَ أَرْفُضُ وَأَنْدَمُ فِي ٱلتُّرَابِ وَٱلرَّمَادِ".

أيُّوب يؤمن بسيادة الله مع أن الله لم يكشف له عن نفسه

ما فحوى هذه الكلمات؟ هل أدرك أيٌّ منكم أنه تُوجد حقيقة هنا؟ أولًا، كيف عرف أيُّوب بوجود إله؟ وكيف عرف أن السماوات والأرض وجميع الأشياء يحكمها الله؟ تُوجد فقرةٌ تُجيب عن هذين السؤالين: "بِسَمْعِ ٱلْأُذُنِ قَدْ سَمِعْتُ عَنْكَ، وَٱلْآنَ رَأَتْكَ عَيْنِي. لِذَلِكَ أَرْفُضُ وَأَنْدَمُ فِي ٱلتُّرَابِ وَٱلرَّمَادِ". نتعلّم من هذه الكلمات أنه، بدلًا من أن يكون أيُّوب قد رأى الله بعينيه، كان يعرف عنه من الأساطير. بدأ في ظلّ هذه الظروف يسلك طريق اتّباع الله، وبعد ذلك أكّد وجود الله في حياته، وبين جميع الأشياء. تُوجد حقيقةٌ لا يمكن إنكارها هنا، فما هي تلك الحقيقة؟ مع أن أيُّوب كان قادرًا على اتّباع طريق اتّقاء الله والحيدان عن الشرّ، إلا أنه لم يرَ الله قط. أليس هو مثل الناس اليوم في هذا الأمر؟ لم يرَ أيُّوب الله قط، بمعنى أنه مع كونه قد سمع عن الله، إلا أنه لم يعرف أين كان الله أو ما كان يبدو عليه الله، أو ما كان الله يفعله، وهذه عوامل ذاتيّة؛ ومن الناحية الموضوعيّة، مع أنه اتّبع الله، إلا أن الله لم يظهر له قط أو يتحدّث إليه. أليست هذا حقيقة؟ مع أن الله لم يتحدّث إلى أيُّوب ولم يعطه أيّة وصايا، فقد رأى أيُّوب وجود الله، ورأى سيادته بين جميع الأشياء وفي الأساطير التي سمع أيُّوب من خلالها عن الله بسمع الأذن، وبعدها بدأ حياة اتّقاء الله والحيدان عن الشرّ. كانت هذه هي الأصول والعمليّة التي اتّبع أيُّوب الله وفقًا لها. ولكن بغضّ النظر عن اتّقائه الله وحيدانه عن الشرّ، وبغضّ النظر عن تمسّكه باستقامته، فإن الله لم يظهر له قط. دعونا نقرأ هذه الفقرة. قال: "هُوَذَا يَمُرُّ عَلَيَّ وَلَا أَرَاهُ، وَيَجْتَازُ فَلَا أَشْعُرُ بِهِ" (أيوب 9: 11). تقول هذه الكلمات إن أيُّوب ربّما شعر بالله من حوله أو ربّما لم يشعر به، لكنه لم يتمكّن مطلقًا من رؤية الله. لقد تخيّل في أوقاتٌ أن الله يمرّ أمامه أو يعمل شيئًا أو يُرشِد الإنسان، لكنه لم يعرف قط. يأتي الله إلى الإنسان عندما لا يتوقّع ذلك؛ لا يعرف الإنسان متى يأتيه الله ولا أين يأتيه، لأن الإنسان لا يستطيع أن يرى الله، وهكذا، فإن الله مخفيٌّ عن الإنسان.

إيمان أيُّوب بالله لا يتزعزع من خلال حقيقة أن الله مخفيٌّ عنه

يقول أيُّوب في المقطع التالي من الكتاب المُقدّس: "هَأَنَذَا أَذْهَبُ شَرْقًا فَلَيْسَ هُوَ هُنَاكَ، وَغَرْبًا فَلَا أَشْعُرُ بِهِ. شِمَالًا حَيْثُ عَمَلُهُ فَلَا أَنْظُرُهُ. يَتَعَطَّفُ ٱلْجَنُوبَ فَلَا أَرَاهُ" (أيوب 23: 8-9). نعلم في هذا الوصف أن الله في تجارب أيُّوب كان مختبئًا عنه طوال الوقت؛ لم يظهر الله له بوضوحٍ، ولم ينطق علانيةً بأيّة كلماتٍ، ولكن أيُّوب في قلبه كان واثقًا من وجود الله. لطالما آمن بأن الله ربّما يسير أمامه، أو ربّما يعمل بجانبه، ومع أنه لم يتمكّن من رؤية الله، فإن الله كان بجانبه يسود على كلّ شيءٍ يخصه. لم يرَ أيُّوب الله قط، لكنه استطاع أن يظل صادقًا في إيمانه، الأمر الذي لم يتمكّن أيّ شخصٍ آخر أن يفعله. ولماذا لم يتمكّن الآخرون من فعل ذلك؟ ذلك لأن الله لم يتكلّم مع أيُّوب ولم يظهر له، وإذا لم يكن قد آمن حقًّا، لما استطاع أن يستمرّ ولما تمسّك بطريق اتّقاء الله والحيدان عن الشرّ. أليس هذا صحيحًا؟ كيف تشعر عندما تسمع أيُّوب يقول هذه الكلمات؟ هل تشعر أن كمال أيُّوب واستقامته وبرّه أمام الله حقيقيّ وليس مبالغة من جهة الله؟ مع أن الله تعامل مع أيُّوب كغيره من الناس ولم يظهر له أو يتكلّم معه، إلا أن أيُّوب كان لا يزال متمسّكًا بكماله، وكان لا يزال يؤمن بسيادة الله، وإضافة إلى ذلك، كان كثيرًا ما يُصعِد محرقات ويُصلّي أمام الله نتيجةً لخوفه من أن يخطئ إلى الله. نرى في قدرة أيُّوب على اتّقاء الله من دون أن يراه مدى حبه للأمور الإيجابيّة، وكم كان إيمانه راسخًا وصادقًا. لم ينكر وجود الله لمُجرّد أن الله كان مخفيًّا عنه، ولم يفقد إيمانه أو يترك الله لمُجرّد أنه لم يره قط. ولكنه بدلًا من ذلك، في خضمّ عمل الله الخفيّ للسيادة على جميع الأشياء، أدرك وجود الله وشعر بسيادة الله وقوّته. لم يتخلّ عن كونه مستقيمًا لمُجرّد أن الله كان مخفيًّا، ولم يترك طريق اتّقاء الله والحيدان عن الشرّ لمُجرّد أن الله لم يظهر له قط. لم يطلب أيُّوب قط أن يظهر له الله علانيةً ليُثبِت وجوده، لأنه كان قد عاين بالفعل سيادة الله على كلّ الأشياء، وآمن أنه نال البركات والنعم التي لم ينلها الآخرون. ومع أن الله بقي مختبئًا عن أيُّوب، إلا أن إيمانه بالله لم يهتز قط. وهكذا، حصد ما لم يحصده آخر: استحسان الله وبركته.

أيُّوب يبارك اسم الله ولا يُفكّر في البركات أو البلايا

تُوجد حقيقةٌ لا يُشار إليها أبدًا في قصص الكتاب المُقدّس عن أيُّوب، وسوف تكون هذه الحقيقة محور تركيزنا اليوم. مع أن أيُّوب لم يرَ الله قط ولم يسمع كلام الله بأذنيه، إلا أن الله كان له مكانٌ في قلب أيُّوب. وماذا كان موقف أيُّوب تجاه الله؟ كان، كما أُشير سابقًا، "فَلْيَكُنِ ٱسْمُ يَهْوَه مُبَارَكًا". كانت مباركته اسم الله غير مشروطةٍ بغض النظر عن السياق، وغير مرتبطة بسببٍ. نرى أن أيُّوب سلّم قلبه لله، مما سمح لله بأن يسود عليه؛ كلّ ما كان يُفكّر فيه، وكلّ ما كان يُقرّره، وكلّ ما كان يُخطّط له في قلبه، كان مكشوفًا أمام الله وليس مخفيًّا عن الله. لم يكن قلبه معارضًا لله، ولم يطلب من الله قط أن يفعل أيّ شيءٍ من أجله أو أن يعطيه شيئًا، ولم يحمل في قلبه أيّة رغبات زائدة أنه سيكسب أيّ شيءٍ من عبادته لله. لم يكن أيُّوب يتحدّث بلغة المال مع الله، ولم يُقدّم أيّة طلباتٍ إلى الله أو طلب مطالب منه. كان تسبيحه اسم الله يرجع لقوّة الله وسلطانه العظيم في حكم كلّ شيءٍ، ولم يكن يعتمد على ما إذا كان قد نال بركاتٍ أو أنه تعرّض لبلية. كان يؤمن أنه بغضّ النظر عمّا إذا كان الله يبارك الناس أو يجلب عليهم البلايا، فإن قوّة الله وسلطانه لن يتغيّرا، ومن ثمَّ، بغضّ النظر عن ظروف المرء، فإنه يجب تسبيح اسم الله. بارك الله هذا الرجل بسبب سيادة الله، وعندما تحلّ بلية بالمرء، فإن هذا أيضًا بسبب سيادة الله. قوّة الله وسلطانه يسودان على كل ما للإنسان ويُرتّبانه؛ أمّا تقلّبات مصائر المرء فهي إظهار قوّة الله وسلطانه، وبغضّ النظر عن وجهة نظر المرء، فإنه يجب تسبيح اسم الله. هذا ما اختبره أيُّوب وعرفه خلال سنوات حياته. بلغت جميع أفكار أيُّوب وأفعاله مسامع الله ومثلت أمام الله، واعتبرها الله مهمّة. قدّر الله معرفة أيُّوب هذه واعتزّ بأيُّوب لامتلاكه ذلك القلب. لطالما انتظر هذا القلب وصية الله دائمًا، انتظرها في كلّ مكانٍ، وبغضّ النظر عن الزمان أو المكان، فقد كان يقبل كلّ ما أصابه. لم يكن أيُّوب يُطالِب الله بشيءٍ. كان ما يُطالِب به نفسه هو أن ينتظر جميع الترتيبات التي جاءت من الله ويقبلها ويرضاها ويطيعها؛ آمن أيُّوب أن هذه هي مهمّته، وكانت هي بالضبط ما أراده الله. لم يرَ أيُّوب الله قط، ولم يسمعه يتكلّم بأيّة كلماتٍ أو يُصدِر أيّة وصايا أو يُلقي أيّة تعاليم أو يأمره بأيّ شيءٍ. في كلمات اليوم، لكي يتمكّن أيُّوب من امتلاك مثل هذه المعرفة والموقف تجاه الله بينما لم يهبه الله أيّ استنارة أو إرشاد أو عطية فيما يتعلّق بالحق – فإن هذا كان ثمينًا، وأن يُظهر مثل هذه الأشياء كان كافيًا لله، كما أن الله مدح شهادته واعتزّ بها. لم يسبق لأيُّوب أن رأى الله ولم يسمعه بنفسه ينطق بأيّة تعاليم له، ولكن الله رأى أن قلبه وأنه هو نفسه أثمن بكثيرٍ من أولئك الناس الذين، أمام الله، لم يمكنهم سوى الحديث بلغة النظريّات العميقة، ولم يمكنهم سوى التفاخر، والتحدّث عن إصعاد محرقاتٍ، ولكن لم تكن لديهم معرفةٌ حقيقيّة بالله، ولم يتّقوا الله حقًّا. كان قلبه نقيًّا ولم يكن مخفيًّا عن الله، وكانت إنسانيّته صادقة وطيّبة القلب، وكان يحبّ العدل وكل ما كان إيجابيًا. لم يكن سوى مثل هذا الرجل الذي كان يمتلك هذا القلب وهذه الإنسانيّة بإمكانه اتّباع طريق الله واتّقاء الله والحيدان عن الشرّ. كان بإمكان مثل هذا الرجل أن يرى سيادة الله، وأن يرى سلطانه وقوّته، وأن يطيع سيادته وترتيباته. ولم يكن سوى مثل هذا الرجل بإمكانه أن يُسبّح اسم الله حقًّا. وهذا يرجع إلى أنه لم ينظر إلى ما إذا كان الله سوف يباركه أو سيجلب عليه بلية، لأنه كان يعلم أن يد الله تسود على كلّ شيءٍ، وأن قلق الإنسان علامة على الحماقة والجهل واللاعقلانيّة، وعلامة على الشكّ في حقيقة سيادة الله على كلّ شيءٍ، وليس علامة على اتّقاء الله. كانت معرفة أيُّوب لله هي بالتحديد ما أراده الله. ولذلك، هل كانت لدى أيُّوب معرفةٌ نظريّة عن الله أكبر مما لديكم؟ لأن عمل الله وكلامه في ذلك الوقت كانا قليلين، لم يكن من السهل بلوغ معرفة الله. ومثل هذا الإنجاز الذي حقّقه أيُّوب لم يكن عملًا عاديًّا، فهو لم يختبر عمل الله ولم يسمعه يتكلّم ولم يرَ وجهه. تمكّنه من أن يكون له موقف كهذا تجاه الله كان بأكمله نتيجةً لإنسانيّته وسعيه الشخصيّ، وهما إنسانيّةٌ وسعي لا يمتلكهما الناس اليوم. وهكذا، في ذلك العصر، قال الله: "لِأَنَّهُ لَيْسَ مِثْلُهُ فِي ٱلْأَرْضِ. رَجُلٌ كَامِلٌ وَمُسْتَقِيمٌ". في ذلك العصر، كان الله قد أجرى بالفعل تقييمًا له، ووصل إلى مثل هذا الاستنتاج. فما مدى أن يكون هذا الاستنتاج أكثر صدقًا اليوم؟

مع أن الله مخفيٌّ عن الإنسان، إلا أن أعماله بين جميع الأشياء كافية لأن يعرفه الإنسان

لم يرَ أيُّوب وجه الله ولم يسمع الكلمات التي تكلّم بها الله، فضلًا عن أن يشهد شخصيًّا عمل الله، ومع ذلك فإن اتقاءه الله وشهادته أثناء تجاربه يشهد لهما الجميع، كما أنهما موضع محبّة الله وسروره وثنائه، وموضع حسد الناس وإعجابهم، بل وحتى أكثر من ذلك، فإنهم يُرتّلون تسبيحاتهما. لم يكن هناك شيءٌ عظيم أو استثنائيّ عن حياته: فمثل أيّ شخصٍ عاديّ عاش حياةً عاديّة، إذ كان يخرج للعمل عند شروق الشمس ويعود إلى بيته للراحة عند غروب الشمس. والفرق هو أنه خلال لعقود العدّة العاديّة تعرّف إلى طريق الله، وأدرك وفهم قوّة الله العظيمة وسيادته، كما لم يفعل أيّ شخصٍ آخر من قبل. لم يكن أذكى من أيّ شخصٍ عاديّ، ولم تكن حياته متماسكة تماسكًا خاصًا، كما لم تكن لديه مهارات خاصة غير منظورةٍ. ومع ذلك، كان يتّسم بشخصيّةٍ صادقة وطيّبة القلب ومستقيمة، شخصيّة أحبّت النزاهة والبر والأمور الإيجابيّة – وهي صفات لا يتّسم بأي منها غالبية الناس العاديّين. كان يُفرّق بين المحبّة والكراهية، ولديه إحساسٌ بالعدالة، وكان مثابرًا عنيدًا، وأظهر قدرة فائقة على تقصي دقائق الأشياء و تفاصيلها في تفكيره، وهكذا شاهد خلال مدة حياته العاديّة على الأرض جميع الأشياء غير العاديّة التي كان الله قد فعلها، ورأى عظمة الله وقداسته وبرّه، وعاين اهتمام الله بالإنسان ورأفته عليه وحمايته له، ورأى شرف الله الأسمى وسلطانه. كان السبب الأول وراء قدرة أيُّوب على اكتساب هذه الأشياء التي كانت أبعد من إمكانيّة أيّ شخصٍ عاديّ هو أنه كان لديه قلبٌ نقيّ وكان قلبه ينتمي إلى الله ويقوده الخالق. وكان السبب الثاني سعيه: سعيه ليكون كاملًا بلا عيبٍ، وممتثلًا لإرادة السماء، ومحبوبًا من الله، وحائدًا عن الشرّ. كان أيُّوب يتّسم بهذه الأشياء ويسعى في طريقها مع أنه لم يكن قادرًا على رؤية الله أو سماع كلماته. مع أن أيُّوب لم يرَ الله قط، إلا أنه تعرّف على الوسائل التي يسود بها الله على جميع الأشياء، وفهم الحكمة التي يفعل بها الله ذلك. ومع أن أيُّوب لم يسمع قط الكلمات التي تكلّم بها الله، إلا أنه عرف أن أفعال مباركة الإنسان وأخذ البركات منه تأتي جميعها من الله. ومع أن سنوات حياته لم تختلف عن سنوات حياة أيّ شخصٍ عاديّ، إلا أنه لم يسمح لنمط حياته العاديّ أن يؤثر في معرفته بسيادة الله على جميع الأشياء أو أن يؤثر في اتّباعه طريق اتّقاء الله والحيدان عن الشرّ. رأى أيُّوب أن قوانين جميع الأشياء كانت ممتلئة بأفعال الله، وأن سيادة الله يمكن رؤيتها في أيّ جانب من جوانب حياة الشخص. لم يرَ الله، لكنه استطاع أن يُدرِك أن أعمال الله في كلّ مكانٍ، وأنها ظاهرة خلال حياته العاديّة على الأرض، وفي كلّ ركنٍ من أركان حياته، استطاع رؤية أعمال الله غير العاديّة والعجيبة وإدراكها، وتمكّن من رؤية ترتيبات الله الرائعة. اختباء الله وصمته لم يمنعا أيُّوب من إدراك أعمال الله، ولم يُؤثّرا في معرفته بسيادة الله على جميع الأشياء. كانت حياته تحقيقًا أثناء حياته اليومية لسيادة الله، الذي كان مخفيًّا بين جميع الأشياء، وترتيباته. وفي حياته اليوميّة سمع أيضًا وفهم صوت قلب الله وكلام الله، الذي هو صامتٌ بين كلّ شيءٍ ولكنه يُعبّر عن صوت قلبه وكلماته من خلال السيادة على قوانين كلّ شيءٍ. ترى، إذًا، أنه إذا كان لدى الناس الإنسانيّة نفسها والسعي نفسه مثل أيُّوب، فبإمكانهم نيل الإدراك نفسه والمعرفة نفسها مثل أيُّوب، وبإمكانهم اقتناء الفهم نفسه والمعرفة نفسها بسيادة الله على جميع الأشياء مثل أيُّوب. لم يظهر الله لأيُّوب ولم يتكلّم معه، ولكن أيُّوب استطاع أن يكون كاملًا ومستقيمًا، وأن يتّقي الله ويحيد عن الشرّ. وهذا يعني أنه بدون أن يظهر الله للإنسان أو يتحدّث إليه، فإن أعماله بين جميع الأشياء وسيادته على جميع الأشياء كافية لكي يُدرِك المرء وجود الله وقوّته وسلطانه، كما أن قوّة الله وسلطانه كافيان لجعل هذا المرء يتبع طريق اتّقاء الله والحيدان عن الشرّ. بما أن رجلًا عاديًّا مثل أيُّوب استطاع بلوغ اتّقاء الله والحيدان عن الشرّ، فإن كلّ شخصٍ عاديّ يتبع الله يجب أن يكون قادرًا على ذلك. مع أن هذه الكلمات قد تبدو أشبه بالاستدلال المنطقيّ، إلا أن هذا لا يتعارض مع قوانين الأشياء. ومع ذلك، فإن الحقائق لم تتوافق مع التوقّعات: يبدو أن اتّقاء الله والحيدان عن الشرّ هما مخزون أيُّوب، وأيُّوب وحده. عند ذكر "اتّقاء الله والحيدان عن الشرّ"، يعتقد الناس أن هذا لا يفعله سوى أيُّوب، كما لو كان طريق اتّقاء الله والحيدان عن الشرّ قد اتّخذ من اسم أيُّوب علامةً ولم يكن له علاقة بالأشخاص الآخرين. السبب في ذلك واضحٌ: لأن أيُّوب وحده كان يتّسم بشخصيّةٍ صادقة وطيّبة القلب ومستقيمة كانت تحبّ العدل والبرّ وجميع الأمور الإيجابيّة، فمن ثمَّ لم يستطع سوى أيُّوب اتّباع طريق اتّقاء الله والحيدان عن الشرّ. ينبغي أن تكونوا قد فهمتم جميعًا المعنى المتضمّن هنا، لأن أحدًا لا يتّسم بإنسانيّةٍ صادقة وطيّبة القلب ومستقيمة تحبّ العدل والبرّ وجميع الأمور الإيجابيّة، فإن أحدًا لا يمكنه أن يتّقي الله ويحيد عن الشرّ، ومن ثمَّ لا يستطيع الناس أبدًا أن ينالوا فرح الله أو يصمدوا وسط التجارب. وهذا يعني أيضًا أنه، باستثناء أيُّوب، لا يزال الشيطان يربط جميع الناس ويُوقِعهم في شركه، ويتّهمهم جميعًا ويُهاجِمهم ويؤذيهم. هم الذين يحاول الشيطان ابتلاعهم، وهم جميعًا بدون حريّةٍ، وسجناءُ قد أسرهم الشيطان.

إذا كان قلب الإنسان معاديًا لله، فكيف يستطيع أن يتّقي الله ويحيد عن الشرّ

بما أن الناس لا يمتلكون اليوم إنسانيّة أيُّوب نفسها، فماذا عن جوهر طبيعتهم وموقفهم من الله؟ هل يتّقون الله؟ هل يحيدون عن الشرّ؟ أولئك الذين لا يتّقون الله أو يحيدون عن الشرّ لا يمكن تلخيص موقفهم سوى بكلمتين: "أعداء الله". كثيرًا ما ترددون هاتين الكلمتين ولكنكم لم تعرفوا معناهما الحقيقيّ قط. تعبير "أعداء الله" له مضمونٌ: إنه لا يعني أن الله يرى الإنسان على أنه العدوّ، ولكن أن الإنسان يرى الله على أنه العدوّ. أولًا، عندما يبدأ الناس في الإيمان بالله، فمَنْ منهم لا تكون له أهدافه ودوافعه وطموحاته الخاصة؟ مع أن جانبًا منهم يؤمن بوجود الله، وعاين وجود الله، فإن إيمانهم بالله مازال يحتوي على تلك الدوافع، وهدفهم النهائيّ في الإيمان بالله هو الحصول على بركاته والأشياء التي يريدونها. في التجارب الحياتيّة للناس، كثيرًا ما يُفكّرون في أنفسهم: "لقد تركت عائلتي وعملي من أجل الله، فماذا أعطاني؟ يجب أن أحسب الأمر وأؤكّده: هل تلقّيتُ أيّة بركاتٍ في الآونة الأخيرة؟ لقد قدّمتُ الكثير خلال هذا الوقت وظللتُ أركض وأركض وعانيتُ الكثير – فهل أعطاني الله أيّة وعودٍ في المقابل؟ هل تذكّر أعمالي الصالحة؟ ماذا ستكون نهايتي؟ هل يمكنني نيل بركات الله؟ ...". يقوم كلّ شخصٍ دائمًا بإجراء هذه الحسابات داخل قلبه، ويُقدّم لله مطالب تحمل دوافعه وطموحاته وعقليته القائمة على الصفقات. وهذا يعني أن الإنسان دائمًا يختبر الله في قلبه، ويضع خططًا باستمرارٍ حول الله، ويتجادل باستمرارٍ في مسألة هدفه الخاص به مع الله، ويحاول الحصول على تصريحٍ من الله، من خلال استكشاف ما إذا كان الله يستطيع أن يعطيه ما يريده أم لا. وفي نفس الوقت الذي يسعى فيه الإنسان إلى الله، لا يعامل الإنسان الله باعتباره الله. فقد حاول الإنسان دومًا إبرام صفقاتٍ مع الله، ولم يتوقف عن تقديم مطالب له، بل حتّى الضغط عليه في كلّ خطوةٍ، محاولًا أن يأخذ الكثير بعد أن ينال القليل. وبينما يحاول الإنسان إبرام صفقاتٍ مع الله، فإنه يتجادل معه أيضًا، بل ويُوجد حتّى أشخاصٌ عندما يتعرّضون للتجارب أو يجدون أنفسهم في مواقف مُعيّنة، فغالبًا ما يصبحون ضعفاء وسلبيّين ومتراخين في أعمالهم، وممتلئين بالشكوى من الله. من الوقت الذي بدأ فيه المرء أول مرة يؤمن بالله، راح يعتبر الله مصدرًا للوفرة ووسيلة مُتعدّدة المهام، واعتبر نفسه أكبر دائنٍ لله، كما لو كانت محاولة الحصول على البركات والوعود من الله حقّه الأصيل والمُلزِم، في حين تكمن مسؤوليّة الله في حمايته ورعايته وإعالته. هذا هو الفهم الأساسيّ لـ"الإيمان بالله" لدى جميع من يؤمنون بالله، وهذا هو فهمهم العميق لمفهوم الإيمان بالله. من جوهر طبيعة الإنسان إلى سعيه الشخصيّ، لا يوجد شيءٌ يتعلّق باتّقاء الله. لا يمكن أن يكون هدف الإنسان في الإيمان بالله له أيّة علاقةٍ بعبادة الله. وهذا يعني أن الإنسان لم يُفكّر أو يفهم قط أن الإيمان بالله يتطلّب اتّقاء الله وعبادته. في ضوء هذه الظروف، فإن جوهر الإنسان واضح. وما هو هذا الجوهر؟ هو أن قلب الإنسان خبيثٌ، إذ يأوي الغدر والخداع، ولا يحبّ العدل والبرّ والأمور الإيجابيّة، كما أنه حقيرٌ وجشع. لا يمكن أن يكون قلب الإنسان أكثر انغلاقًا على الله؛ فهو لم يُسلّمه إلى الله قط. لم يرَ الله قلب الإنسان الحقيقيّ، كما أن الإنسان لم يعبده قط. وبغضّ النظر عن الثمن العظيم الذي يدفعه الله، أو مقدار العمل الذي يعمله، أو مقدار ما يُقدّمه للإنسان، يبقى الإنسان أعمى عن ذلك، وغير مكترثٍ به كله بالمرة. لم يُسلّم الإنسان قلبه إلى الله قط، فهو يريد أن يكون قلبه له وحده، وأن يتّخذ قراراته الخاصة به، وهذا معناه الضمنيّ أن الإنسان لا يريد اتّباع طريق اتّقاء الله والحيدان عن الشرّ، أو طاعة سيادة الله وترتيباته، ولا يريد أن يعبد الله باعتباره الله. هذه هي حالة الإنسان اليوم. دعونا الآن ننظر مرةً أخرى إلى أيُّوب. في البداية، هل أبرم صفقةً مع الله؟ هل كانت لديه أيّة دوافع خفيّة وراء التمسّك بطريق اتّقاء الله والحيدان عن الشرّ؟ هل تكلّم الله إلى أيّ أحدٍ في ذلك الوقت عن النهاية القادمة؟ لم يقطع الله وعودًا في ذلك الوقت مع أيّ أحدٍ حول النهاية، وعلى هذه الخلفية استطاع أيُّوب اتّقاء الله والحيدان عن الشرّ. هل يصمد الناس اليوم عند مقارنتهم مع أيُّوب؟ يُوجد الكثير من التفاوت، فهم في فرقٍ مختلفة. ومع أن أيُّوب لم يكن لديه الكثير من المعرفة بالله، إلا أنه سلّم قلبه لله فأصبح ملكًا له. لم يُبرِم أيّة صفقةً مع الله، ولم تكن لديه أيّة رغباتٍ أو مطالب زائدة من الله؛ ولكنه بدلًا من ذلك آمن بأن "يَهْوَه أَعْطَى وَيَهْوَه أَخَذَ". كان هذا هو ما رآه وما ناله من التمسّك بطريق اتّقاء الله والحيدان عن الشرّ خلال سنواتٍ عديدة من الحياة. وبالمثل، نال أيضًا النتيجة المتمثلة في الكلمات التالية "أَٱلْخَيْرَ نَقْبَلُ مِنْ عِنْدِ ٱللهِ، وَٱلشَّرَّ لَا نَقْبَلُ؟". كانت هاتان الجملتان هما ما رآه وتعرّف عليه نتيجةً لموقفه من طاعة الله خلال تجارب حياته، كما كانتا أقوى أسلحته التي انتصر بها أثناء إغواءات الشيطان، وأساس تمسّكه الدائم بالشهادة لله. في هذه المرحلة، هل تتصوّرون أيُّوب شخصًا محبوبًا؟ هل تأملون في أن تكونوا مثل هذا الشخص؟ هل تخشون من التعرّض لإغواء الشيطان؟ هل تُقرّرون الصلاة إلى الله من أجل إخضاعكم لنفس تجارب أيُّوب؟ لا شكّ أن معظم الناس لن يجرؤوا على الصلاة من أجل مثل تلك الأشياء. من الواضح، إذًا، أن إيمانكم ضعيفٌ بدرجةٍ تدعو للرثاء؛ فبالمقارنة مع أيُّوب، لا يستحقّ إيمانكم الذكر. أنتم أعداء الله، فأنتم لا تتّقون الله، وأنتم غير قادرين على الصمود في الشهادة لله، وغير قادرين على الانتصار في هجمات الشيطان واتّهاماته وإغوائه. ماذا يجعلكم مؤهلين لتلقّي وعود الله؟ بعد أن سمعتم قصة أيُّوب وتفهّمتم قصد الله من خلاص الإنسان ومعنى خلاص الإنسان، هل لديكم الآن القدرة على قبول تجارب أيُّوب نفسها؟ ألا يجب أن تكون لديكم عزيمةٌ بسيطة للسماح لأنفسكم باتّباع طريق اتّقاء الله والحيدان عن الشرّ؟

لا تتشكّك بشأن تجارب الله

بعدما تلقّى الله الشهادة من أيُّوب بعد انتهاء تجاربه، قرّر أن يكسب مجموعةً من الأشخاص – أو أكثر من مجموعةٍ – مثل أيُّوب، ومع ذلك قرّر ألا يسمح مرةً أخرى للشيطان بمهاجمة أيّ شخصٍ آخر أو إيذائه باستخدام الوسائل التي بها أغوى أيُّوب وهاجمه وآذاه من خلال الرهان مع الله؛ لم يسمح الله للشيطان بأن يفعل مثل هذه الأشياء مرةً أخرى للإنسان، الذي هو ضعيفٌ وأحمق وجاهل – فيكفي الشيطان أنه أغوى أيُّوب! إن عدم السماح للشيطان بإيذاء الناس مهما كانت رغباته هي رحمةٌ من الله. يرى الله أنه يكفي أن أيُّوب تحمّل إغواء الشيطان وإيذائه. لم يسمح الله للشيطان بأن يفعل مثل هذه الأشياء مرةً أخرى، لأن حياة جميع الناس الذين يتبعون الله وكلّ شيءٍ يخصّهم يخضع لحكم الله وتنظيمه، وغير مسموح للشيطان أن يتحكّم في مختاريّ الله كما يريد – يجب أن تفهموا هذه النقطة! يهتمّ الله بضعف الإنسان ويتفهّم حماقته وجهله. ومع ذلك، من أجل أن ينال المرء الخلاص كاملًا، يجب أن يُسلّمه الله إلى الشيطان، والله لا يرغب في أن يرى الإنسان أبدًا يلهو به الشيطان كما لو كان أحمقَ ويسيء إليه، ولا يريد أن يرى الإنسان يعاني دائمًا. فالله خلق الإنسان، أما كون الله يحكم كلّ شيءٍ ويرتبه للإنسان؛ فهذا مقدَّرٌ من السماء ومعتَرَف به من الأرض، وهذه مسؤوليّة الله والسلطان الذي يحكم به الله كلّ شيءٍ! لا يسمح الله للشيطان بأن يؤذي الإنسان أو يسيء إليه كما يريد، ولا يسمح للشيطان بأن يستخدم وسائل مختلفة ليُضلّل الإنسان، وإضافة إلى ذلك، لا يسمح للشيطان بالتدخّل في سيادة الله على الإنسان، ولا يسمح للشيطان بأن يدوس القوانين التي يحكم بها الله كلّ شيءٍ أو ينقضها، فضلاً عن أن يعطل عمل الله العظيم في تدبير البشريّة وخلاصها! أولئك الذين يود الله أن يُخلّصهم، وأولئك القادرون على الشهادة لله، هم جوهر وبلورة عمل خطّة الله الممتدّة على مدار ستة آلاف سنةٍ، بالإضافة إلى ثمن جهوده عبر ستة آلاف سنةٍ من العمل. كيف أعطى الله هؤلاء الناس عَرَضًا للشيطان؟

كثيرًا ما يقلق الناس ويخافون من تجارب الله، ولكنهم في جميع الأوقات يعيشون في فخّ الشيطان، ويعيشون في أراضٍ محفوفة بالمخاطر يتعرّضون فيها لهجوم الشيطان وإيذائه – ومع ذلك فهم لا يخافون ولا يقلقون. ماذا يحدث؟ يقتصر إيمان الإنسان بالله على الأشياء التي يمكنه رؤيتها. ليس لديه أدنى تقديرٍ لمحبّة الله واهتمامه بالإنسان أو رحمته وتقديره للإنسان. ولكن بسبب القليل من الذعر والخوف من تجارب الله ودينونته وتوبيخه وجلاله وغضبه، لا يملك الإنسان أدنى فهمٍ لمقاصد الله الصالحة. عند ذكر التجارب، يشعر الناس كما لو أن الله لديه دوافع خفيّة، حتّى أن البعض يعتقدون أن الله لديه أفكارٌ شريرة، غير مُدرِكين ما سيفعله الله لهم بالفعل؛ وهكذا، في الوقت الذي يدّعون فيه طاعة سيادة الله وترتيباته، يبذلون كلّ ما في وسعهم لمقاومة ومعارضة سيادة الله وترتيباته للإنسان، لأنهم يعتقدون أنه إذا لم يكونوا حذرين فسوف يُضلّلهم الله، وإذا لم يُمسِكوا بزمام مصيرهم فإن كلّ ما لديهم يمكن أن يأخذه الله، حتّى أن حياتهم يمكن أن تنتهي. الإنسان مقيمٌ في معسكر الشيطان، ولكنه لا يخاف أبدًا من إيذاء الشيطان له، كما أن الشيطان يؤذيه لكنه لا يخاف أبدًا من أسر الشيطان له. يظلّ يقول إنه يقبل خلاص الله، لكنه لم يثق مطلقًا بالله ولم يؤمن أن الله سوف يُخلّصه حقًّا من مخالب الشيطان. إذا استطاع الإنسان، مثل أيُّوب، الخضوع لتنظيمات الله وترتيباته، وتمكّن من تسليم كيانه بجملته إلى يد الله، ألن تكون نهاية الإنسان هي نفسها نهاية أيُّوب – أي نيل بركات الله؟ إذا تمكّن الإنسان من قبول حكم الله والخضوع له، فما الذي يخسره؟ ومن ثمَّ، أقترح أن تكونوا حذرين في تصرّفاتكم وتجاه كلّ ما سوف يأتي عليكم. لا تتهوّروا أو تتسرّعوا، ولا تتعاملوا مع الله والناس والأمور والأشياء التي رتّبها لكم بحسب مزاجكم أو طبيعتكم أو حسب خيالاتكم ومفاهيمكم؛ ينبغي أن تكونوا حذرين في تصرّفاتكم، وينبغي أن تصلّوا وتسعوا أكثر لتفادي فوران غضب الله. تذكّروا هذا!

سوف ننظر بعد ذلك في حال أيُّوب بعد تجاربه.

5. أيُّوب بعد تجاربه

(أيوب 42: 7-9) "وَكَانَ بَعْدَمَا تَكَلَّمَ يَهْوَه مَعَ أَيُّوبَ بِهَذَا ٱلْكَلَامِ، أَنَّ يَهْوَه قَالَ لِأَلِيفَازَ ٱلتَّيْمَانِيِّ: "قَدِ ٱحْتَمَى غَضَبِي عَلَيْكَ وَعَلَى كِلَا صَاحِبَيْكَ، لِأَنَّكُمْ لَمْ تَقُولُوا فِيَّ ٱلصَّوَابَ كَعَبْدِي أَيُّوبَ. وَٱلْآنَ فَخُذُوا لِأَنْفُسِكُمْ سَبْعَةَ ثِيرَانٍ وَسَبْعَةَ كِبَاشٍ وَٱذْهَبُوا إِلَى عَبْدِي أَيُّوبَ، وَأَصْعِدُوا مُحْرَقَةً لِأَجْلِ أَنْفُسِكُمْ، وَعَبْدِي أَيُّوبُ يُصَلِّي مِنْ أَجْلِكُمْ، لِأَنِّي أَرْفَعُ وَجْهَهُ لِئَلَّا أَصْنَعَ مَعَكُمْ حَسَبَ حَمَاقَتِكُمْ، لِأَنَّكُمْ لَمْ تَقُولُوا فِيَّ ٱلصَّوَابَ كَعَبْدِي أَيُّوبَ". فَذَهَبَ أَلِيفَازُ ٱلتَّيْمَانِيُّ وَبِلْدَدُ ٱلشُّوحِيُّ وَصُوفَرُ ٱلنَّعْمَاتِيُّ، وَفَعَلُوا كَمَا قَالَ يَهْوَه لَهُمْ. وَرَفَعَ يَهْوَه وَجْهَ أَيُّوبَ".

(أيوب 42: 10) "وَرَدَّ يَهْوَه سَبْيَ أَيُّوبَ لَمَّا صَلَّى لِأَجْلِ أَصْحَابِهِ، وَزَادَ يَهْوَه عَلَى كُلِّ مَا كَانَ لِأَيُّوبَ ضِعْفًا".

(أيوب 42: 12) "وَبَارَكَ يَهْوَه آخِرَةَ أَيُّوبَ أَكْثَرَ مِنْ أُولَاهُ. وَكَانَ لَهُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا مِنَ ٱلْغَنَمِ، وَسِتَّةُ آلَافٍ مِنَ ٱلْإِبِلِ، وَأَلْفُ فَدَّانٍ مِنَ ٱلْبَقَرِ، وَأَلْفُ أَتَانٍ".

(أيوب 42: 17) "ثُمَّ مَاتَ أَيُّوبُ شَيْخًا وَشَبْعَانَ ٱلْأَيَّامِ".

أولئك الذين يخافون الله ويحيدون عن الشرّ يعتزّ بهم الله، في حين أن أولئك الحمقى يحتقرهم الله

يقول الله في أيوب 42: 7-9 إن أيُّوب عبده. يُوضّح استخدامه لمصطلح "عبد" في إشارته إلى أيُّوب أهميّة أيُّوب في قلبه؛ ومع أن الله لم يدعُ أيُّوب بتسمية أكثر أهميّةٍ، لم تكن لهذه التسمية أيّ تأثيرٍ على أهميّة أيُّوب في قلب الله. مصطلح "عبد" هنا هو الاسم الذي استخدمه الله لأيُّوب. تشير إشارات الله المُتعدّدة إلى "عبدي أيُّوب" إلى مدى رضاه عن أيُّوب. وعلى الرغم من أن الله لم يتحدّث عن المعنى وراء كلمة "عبد"، إلا أن تعريف الله لكلمة "عبد" يمكن رؤيته من كلماته في هذه الفقرة الكتابيّة. قال الله أولًا لأليفاز التيمانيّ: "قَدِ ٱحْتَمَى غَضَبِي عَلَيْكَ وَعَلَى كِلَا صَاحِبَيْكَ، لِأَنَّكُمْ لَمْ تَقُولُوا فِيَّ ٱلصَّوَابَ كَعَبْدِي أَيُّوبَ". هذه الكلمات هي المرة الأولى التي يقول فيها الله علنًا إنه قَبِلَ كلّ ما قاله أيُّوب وعمله بعد تجارب الله له، وهي المرة الأولى التي أكّد فيها صراحةً دقّة وصحة جميع ما عمله أيُّوب وقاله. غضب الله من أليفاز والصاحبين الآخرين بسبب كلامهم الخاطئ السخيف، ولأنهم، مثل أيُّوب، لم يتمكّنوا من رؤية ظهور الله ولم يسمعوا الكلمات التي تكلّم بها في حياتهم، ومع ذلك كان أيُّوب يتّسم بمعرفةٍ دقيقة بالله بينما لم يمكنهم سوى التخمين الأعمى عن الله، منتهكين إرادة الله ومُجرّبين صبره في كلّ ما فعلوه. ومن ثمَّ، في الوقت الذي تقبّل فيه الله كلّ ما قاله أيُّوب وعمله، حمي غضبه على الآخرين لأن الأمر لم يقتصر على أنه لم يستطع أن يرى فيهم أيّة علامةٍ على اتّقائهم الله، ولكنه أيضًا لم يسمع شيئًا عن اتّقاء الله في ما قالوه. وهكذا طالبهم الله بما يلي: "وَٱلْآنَ فَخُذُوا لِأَنْفُسِكُمْ سَبْعَةَ ثِيرَانٍ وَسَبْعَةَ كِبَاشٍ وَٱذْهَبُوا إِلَى عَبْدِي أَيُّوبَ، وَأَصْعِدُوا مُحْرَقَةً لِأَجْلِ أَنْفُسِكُمْ، وَعَبْدِي أَيُّوبُ يُصَلِّي مِنْ أَجْلِكُمْ، لِأَنِّي أَرْفَعُ وَجْهَهُ لِئَلَّا أَصْنَعَ مَعَكُمْ حَسَبَ حَمَاقَتِكُمْ". يطلب الله من أليفاز والصاحبين الآخرين في هذا المقطع بأن يفعلوا شيئًا من شأنه التكفير عن آثامهم، لأن حماقتهم كانت خطيّة ضدّ يهوه الله، وهكذا اضطّروا لإصعاد محرقاتٍ للتكفير عن ذنوبهم. غالبًا ما تُصعَد المحرقات إلى الله، ولكن الغريب في هذه المحرقات هو أنها مُقدّمة إلى أيُّوب. قَبِلَ الله أيُّوب لأنه شهد لله خلال تجاربه. أمّا أصدقاء أيُّوب فقد انكشفوا أثناء فترة تجاربه؛ فبسبب حماقتهم أدانهم الله، وأثاروا غضب الله، فكان يجب على الله معاقبتهم بإصعاد محرقاتٍ أمام أيُّوب حتّى يُصلّي أيُّوب من أجلهم لرفع عقاب الله وغضبه عليهم. كان قصد الله إلحاق الخزي بهم، لأنهم لم يتّقوا الله أو يحيدوا عن الشرّ، كما أنهم أدانوا استقامة أيُّوب. كان الله، من ناحية، يُخبِرهم أنه لم يقبل أفعالهم ولكنه كان يقبل أيُّوب بكلّ سرورٍ؛ ومن ناحية أخرى، كان الله يُخبِرهم أن قبول الله للإنسان يرفع من شأن الإنسان أمام الله، وأن الله يلفظ الإنسان بسبب حماقته، لأن هذا من شأنه الإساءة إلى الله، ويجعل الإنسان مُنحطًّا شريرًا في نظر الله. هذه هي التعريفات التي قدّمها الله لنوعين من الناس، وهي مواقف الله تجاه هذين النوعين من الناس، وهي تعبير الله عن قيمة ومكانة هذين النوعين من الناس. مع أن الله دعا أيُّوب عبده، إلا أن هذا العبد كان محبوبًا في نظره، كما أنه تمتّع بسلطان الصلاة من أجل الآخرين ومسامحتهم على ذنوبهم. كان بإمكان هذا العبد التكلّم مباشرةً إلى الله والمثول مباشرةً أمام الله، وكان وضعه أعلى وأسمى من الآخرين. هذا هو المعنى الحقيقيّ لكلمة "عبد" التي تحدّث بها الله. نال أيُّوب هذا الشرف الخاص بسبب اتّقائه الله وحيدانه عن الشرّ، والسبب الذي جعل الله لا يدعو الآخرين عبيدًا هو أنهم لم يتّقوا الله أو يحيدوا عن الشرّ. هذان الموقفان المختلفان اختلافًا واضحًا من الله هما موقفاه تجاه نوعين من الناس: أولئك الذين يتّقون الله ويحيدون عن الشرّ يقبلهم الله ويعتزّ بهم، أمّا أولئك الحمقى فلا يتّقون الله أو يحيدون عن الشرّ ولا يمكنهم نيل فضل الله؛ كما أن الله غالبًا ما يلفظهم ويدينهم وهم أدنياءٌ في عينيه.

الله يمنح أيُّوب سلطانًا

صلّى أيُّوب من أجل أصدقائه، وبعد ذلك، بفضل صلاة أيُّوب، لم يتعامل الله معهم بحسب حماقتهم ولم يعاقبهم أو ينتقم منهم. ولماذا كان هذا؟ كان ذلك لأن الصلوات التي رفعها عبده أيُّوب بلغت مسامعه؛ وقد غفر الله لهم لأنه قَبِلَ صلاة أيُّوب. وماذا نرى في هذا؟ عندما يبارك الله شخصًا ما يمنحه الكثير من المكافآت، وليس المكافآت الماديّة فقط. فالله يمنحه السلطان أيضًا ويُؤهّله للصلاة من أجل الآخرين فينسى الله ذنوب هؤلاء الناس ويتغافل عنها لأنه يسمع هذه الصلوات. هذا هو السلطان ذاته الذي منحه الله لأيُّوب. من خلال صلوات أيُّوب لإيقاف إدانتهم، ألحق يهوه الله الخزي بهؤلاء الحمقى – وقد كان هذا بالطبع عقوبته الخاصة لأليفاز والصاحبين الآخرين.

الله يبارك أيُّوب مرةً أخرى ولا يعود الشيطان ليتّهمه

من بين أقوال يهوه الله "لِأَنَّكُمْ لَمْ تَقُولُوا فِيَّ ٱلصَّوَابَ كَعَبْدِي أَيُّوبَ". ما الذي قاله أيُّوب؟ لقد كان ما تحدّثنا عنه سابقًا، وكذلك الكثير من الكلمات المُسجّلة في سفر أيُّوب التي يُقال إن أيُّوب تكلّم بها. في كلّ هذه الصفحات العديدة، لم تكن لدى أيُّوب أيّة شكاوى أو شكوك عن الله. إنه ببساطةٍ ينتظر النتيجة. وهذا الانتظار هو موقفه من الطاعة، ونتيجةً لذلك، ونتيجةً للكلمات التي قالها لله، كان أيُّوب مقبولًا من الله. عندما تحمّل التجارب وعانى المشقّة، كان الله إلى جانبه، ومع أن معاناته لم تقلّ بسبب وجود الله، إلا أن الله رأى ما أراد أن يراه، وسمع ما أراد أن يسمعه. كلّ فعلٍ من أفعال أيُّوب وكلماته بلغ نظر الله ومسمعه. لقد سمع الله ورأى – وهذه حقيقةٌ. لم تكن معرفة أيُّوب بالله وأفكاره عنه في قلبه في ذلك الوقت، خلال تلك الفترة، في الواقع مُحدّدة تمامًا مثل المعرفة التي يملكها الناس اليوم، ولكن في سياق الزمن كان الله لا يزال يعترف بكلّ ما قاله لأن سلوكه والأفكار في قلبه، وكذلك ما عبّر عنه وكشفه، كانت كافية لمتطلّبات الله. خلال الفترة التي خضع فيها أيوب للتجارب كان ما يُفكّر به في قلبه ويُقرِر عمله يُظهِر لله نتيجةً، وكانت نتيجة مُرضية لله، وبعد أن أنهى هذا الإله تجارب أيُّوب، خرج أيُّوب من مشاكله وانتهت تجاربه ولم تعد تصيبه مرةً أخرى. لأن أيُّوب خضع بالفعل للتجارب، وصمد خلالها، وانتصر بالكامل على الشيطان، أعطاه الله البركات التي يستحقّها عن جدارةٍ. وكما هو مُسجّلٌ في أيُّوب 42: 10، 12، نال أيُّوب البركة مرةً أخرى وتبارك بأكثر مما حظي به في المرة الأولى. كان الشيطان في هذا الوقت قد انسحب، ولم يقل أو يفعل أيّ شيءٍ، ومنذ ذلك الحين لم يعد يتدخّل في حياة أيُّوب أو يهاجمه، ولم يعد يشتكي من بركات الله لأيُّوب.

أيُّوب يمضي الجزء الأخير من حياته في غمرة بركات الله

مع أن بركات الله في ذلك الوقت كانت تقتصر على الغنم والبقر والجِمال والأصول الماديّة، وما إلى ذلك، إلا أن البركات التي رغب الله في قلبه في إعطائها لأيُّوب كانت أكثر من ذلك بكثيرٍ. هل كان نوع الوعد الأبديّ الذي رغب الله في تقديمه إلى أيُّوب مُسجّلًا في هذا الوقت؟ في بركات الله لأيُّوب لم يذكر الله نهايته أو يتطرق لها، وبغضّ النظر عن أهميّة أيُّوب أو مكانته في قلب الله، إلا أن الله بالإجمال كان مترويًا جدًا في بركاته. لم يُعلِن الله نهاية أيُّوب. ماذا يعني هذا؟ في ذلك الوقت، عندما كانت خطّة الله في انتظار الوصول إلى مرحلة إعلان نهاية الإنسان، لم تكن الخطّة قد دخلت بعد المرحلة النهائيّة من عمله، ولم يُشِر الله إلى النهاية بل كان يمنح الإنسان بركات ماديّة. وهذا يعني أن النصف الأخير من حياة أيُّوب كان يفيض ببركات الله، وهو ما جعله مختلفًا عن الآخرين – ولكنه شاخ مثلهم ومثل أيّ شخصٍ عاديّ جاء يوم توديعه العالم. ولهذا مكتوبٌ "ثُمَّ مَاتَ أَيُّوبُ شَيْخًا وَشَبْعَانَ ٱلْأَيَّامِ" (أيوب 42: 17). ما معنى "مَاتَ شَبْعَانَ ٱلْأَيَّامِ" هنا؟ في الفترة التي سبقت إعلان الله عن نهاية الناس، وضع الله متوسطًا عمريًّا متوقّعًا لأيُّوب، وعندما بلغ أيُّوب هذا السن، سمح له كأمر طبيعيّ بأن يغادر هذا العالم. من البركة الثانية لأيُّوب وحتّى موته، لم يضف الله المزيد من المشقّة. اعتبر الله أن موت أيُّوب طبيعيٌّ وضروريٌ أيضًا، كان أمرًا عاديًّا جدًّا، ولم يكن دينونة ولا إدانة. بينما كان أيُّوب على قيد الحياة، كان يعبد الله ويتّقيه؛ وفيما يتعلّق بنوع نهايته بعد موته، لم يقل الله شيئًا، ولم يُقدّم أيّ تعليقٍ حوله. لدى الله إحساس قوي بالصواب فيما يقوله ويفعله، كما أن مضمون كلماته وأفعاله ومبادئها هو بحسب مرحلة عمله والفترة التي يعمل فيها. ما نوع نهاية شخصٍ ما مثل أيُّوب في قلب الله؟ هل توصّل الله إلى أيّ نوعٍ من القرار في قلبه؟ بالطبع توصل لقرارٍ! لكن كان هذا القرار ببساطة غير معروفٍ لدى الإنسان؛ لم يرد الله أن يُخبِر الإنسان، ولم تكن لديه أيّة نيّةٍ لإخبار الإنسان. ومن ثمَّ، من الناحية الظاهريّة، مات أيُّوب شبعان الأيام، وكانت هذه هي حياة أيُّوب.

القيمة التي حياها أيُّوب خلال حياته

هل عاش أيُّوب حياةً ذات قيمةٍ؟ أين كانت القيمة؟ لماذا يقال إنه عاش حياةً ذات قيمةٍ؟ ماذا كانت قيمته في نظر الإنسان؟ من وجهة نظر الإنسان، كان يُمثّل البشريّة التي يريد الله خلاصها، وفي الشهادة المدويّة لله أمام الشيطان وشعوب العالم. أتمّ المهمّة التي كان يجب أن يُتمّمها مخلوقٌ من مخلوقات الله، ووضع نموذجًا وتصرّف كمثالٍ يُحتذى لجميع أولئك الذين يرغب الله في خلاصهم، مما يسمح للناس رؤية أنه من الممكن تمامًا الانتصار على الشيطان بالاعتماد على الله. وماذا كانت قيمته عند الله؟ اعتبر الله أن قيمة حياة أيُّوب تكمن في قدرته على اتّقاء الله وعبادته والشهادة لأعماله وتسبيح أعماله، وجلب التعزية والسرور لقلبه؛ اعتبر الله أن قيمة حياة أيُّوب تمثّلت أيضًا في كيفيّة اختباره التجارب قبل موته وانتصاره على الشيطان وشهادته شهادةً مدوية لله أمام الشيطان وشعوب العالم، ليتمجد الله بين البشر، حيث يعزّي قلبه، ويسمح لقلبه المتلهف بمعاينة النتيجة ورؤية الأمل. وضعت شهادته معيارًا للقدرة على صمود المرء في شهادته لله، والقدرة على إلحاق الخزي بالشيطان بالنيابة عن الله وفي عمل الله في تدبير البشريّة. أليست هذه قيمة حياة أيُّوب؟ جلب أيُّوب التعزية لقلب الله، وقدّم لله بادرة مسرّة بتمجده، وقدّم بدايةً رائعة لخطّة تدبير الله. ومن الآن فصاعدًا، أصبح اسم أيُّوب رمزًا لتمجّد الله، وعلامةً على انتصار البشريّة على الشيطان. ما عاشه أيُّوب خلال حياته وكذلك انتصاره الرائع على الشيطان سوف يكون مصدر اعتزازٍ من الله إلى الأبد، كما أن كماله واستقامته واتّقاءه الله سوف تُكرّمه الأجيال القادمة وتحاكيه. سوف يكون مصدر اعتزازٍ من الله إلى الأبد مثل لؤلؤةٍ مضيئة لا تشوبها شائبةٌ، وبالدرجة نفسها يستحقّ التقدير من الإنسان!

دعونا بعد ذلك نلقي نظرةً على عمل الله خلال عهد الناموس.

رابعًا. أحكام عصر الناموس

الوصايا العشر

أحكام بناء المذابح

أحكام معاملة العبيد

أحكام السرقة والتعويض

حفظ يوم السبت والأعياد الثلاثة

أحكام يوم السبت

أحكام تقديم الذبائح

ذبائح المحرقة

تقدمات القربان

ذبائح السلامة

ذبائح الخطيّة

ذبائح الإثم

أحكام المحرقات المُقدّمة من الكهنة (هارون وأبناؤه مأمورون بالامتثال)

الذبائح المُقدّمة من الكهنة

تقدمات القربان المُقدّمة من الكهنة

ذبائح الخطيّة المُقدّمة من الكهنة

ذبائح الإثم المُقدّمة من الكهنة

ذبائح السلامة المُقدّمة من الكهنة

أحكام الأكل من الذبائح المُقدّمة من الكهنة

الحيوانات الطاهرة والنجسة (التي تؤكل والتي لا تؤكل)

أحكام تطهير النساء بعد الولادة

معايير فحص البَرَص

أحكام من نالوا الشفاء من البَرَص

أحكام تطهير المنازل المصابة

أحكام من يعانون من الإفرازات النجسة

يوم الكفارة الذي ينبغي الاحتفال به مرةً كل عام

أحكام ذبح البقر والغنم

حظر اتّباع الممارسات الممقوتة لدى الأمم (عدم ارتكاب سفاح القربى وما إلى ذلك)

الأحكام التي ينبغي على الشعب أن يتّبعها ["تَكُونُونَ قِدِّيسِينَ لِأَنِّي قُدُّوسٌ يَهْوَه إِلَهُكُمْ" (اللاويين 19: 2)]

قتل من يُقدّمون أولادهم كذبائح إلى مولك

أحكام معاقبة جريمة الزنا

الأحكام التي يجب أن يتّبعها الكهنة (قواعد سلوكهم اليوميّ، وقواعد استخدام المُقدّسات، وقواعد تقديم الذبائح، وما إلى ذلك)

الأعياد التي يجب حفظها (يوم السبت، وعيد الفصح، وعيد العنصرة، ويوم الكفارة، وما إلى ذلك)

الأحكام الأخرى (إنارة المصابيح، وسنة اليوبيل، وفِكاك استرداد الأرض، وتقديم النذور، وتقديم العشور، وما إلى ذلك)

أحكام عصر الناموس هي الدليل الحقيقيّ على إرشاد الله للبشريّة كلّها

إذًا، قرأتم أحكام ومبادئ عصر الناموس، أليس كذلك؟ هل تشمل الأحكام طائفة عريضة؟ أولًا، إنها تغطي الوصايا العشر، وبعدها أحكام كيفيّة بناء المذابح، وما إلى ذلك. وبعد ذلك أحكام حفظ يوم السبت وحفظ الأعياد الثلاثة، وبعد ذلك أحكام الذبائح. هل رأيتم كم عدد أنواع الذبائح؟ هناك ذبائح المحرقة وتقدمات القربان وذبائح السلامة وذبائح الخطيّة وما إلى ذلك، وبعدها أحكامٌ خاصة بذبائح الكهنة، بما في ذلك ذبائح المحرقة وتقدمات القربان المُقدّمة من الكهنة وغيرها من الذبائح. أما مجموعة الأحكام الثامنة فتخصّ الأكل من الذبائح المُقدّمة من الكهنة، وبعدها تُوجد أحكامٌ لما يجب مراعاته خلال حياة الناس. تُوجد شروطٌ للعديد من جوانب حياة الناس، مثل الأحكام الخاصة بما يحل أو لا يحل لهم أن يأكلوه، وتطهير النساء بعد الولادة، وأولئك الذين نالوا الشفاء من البَرَص. يتحدّث الله في هذه الأحكام بالتفصيل عن المرض، وتُوجد حتّى أحكامٌ لذبح الغنم والماشية وما إلى ذلك. الله خلق الغنم والماشية، ولكن يجب عليك ذبحها بالطريقة التي يُخبِرك بها الله؛ يُوجد، دون شكٍّ، سببٌ لكلمات الله، فمن الحقّ التصرّف بحسب أمر الله، وبالتأكيد لفائدة الناس! تُوجد أيضًا الأعياد والأحكام التي يجب حفظها، مثل يوم السبت وعيد الفصح وغيرها – تكلّم الله عن هذه كلّها. دعونا نلقي نظرةً على الأحكام الأخيرة، أي الأحكام الأخرى – إنارة المصابيح وسنة اليوبيل وفِكاك (استرداد) الأرض وتقديم النذور وتقديم العشور وما إلى ذلك. هل هذه تشمل مجموعةً واسعة؟ الشيء الأول الذي يجب الحديث عنه هو مسألة الذبائح المقدمة من الناس، ثم تُوجد أحكامٌ للسرقة والتعويض وحفظ يوم السبت...؛ إنها تتضمن جميع تفاصيل الحياة. وهذا يعني أنه عندما بدأ الله العمل الرسميّ لخطّة تدبيره، وضع العديد من الأحكام التي يجب أن يتبعها الإنسان. كان الهدف من هذه الأحكام السماح للإنسان بأن يعيش حياةً عاديّة على الأرض، حياةً طبيعيّة لا يمكن فصلها عن الله وإرشاده. أخبر الله الإنسان أولًا بكيفيّة عمل مذابح، أي كيفيّة بناء المذابح. وبعد ذلك، أخبر الإنسان بكيفيّة تقديم الذبائح وأرسى قوانين لكيفيّة حياة الإنسان، وما يجب عليه ملاحظته في الحياة، وما كان يجب عليه الالتزام به، وما يجب ولا يجب عليه فعله. كان ما وضعه الله للإنسان يشمل كلّ شيءٍ، وبهذه التقاليد والأحكام والمبادئ وحّد سلوك الناس، وأرشد حياتهم، ووجّه خطوتهم الابتدائية إلى قوانين الله، وقادهم للمثول أمام مذبح الله، ووجّههم في الحياة بين جميع الأشياء التي صنعها الله للإنسان وكانت تتّسم بالنظام والانتظام والاعتدال. استخدم الله أولًا هذه الأحكام والمبادئ البسيطة لتعيين حدود للإنسان، بحيث ينعم الإنسان على الأرض بحياةٍ طبيعيّة لعبادة لله، وينعم بالحياة الطبيعيّة للإنسان؛ هذا هو المحتوى المُحدّد لبداية خطّة التدبير على مدى ستة آلاف سنةٍ. تغطي الأحكام والقواعد محتوىً واسعًا للغاية، فهي خصائص إرشاد الله للبشريّة خلال عصر الناموس، وكان ينبغي على الأشخاص الذين جاءوا قبل عصر الناموس قبولها وإطاعتها، فهي سجلٌ للعمل الذي أتّمه الله خلال عصر الناموس ودليلٌ حقيقيّ على قيادة الله وإرشاده للبشريّة.

لا يمكن فصل البشريّة عن تعاليم الله وأحكامه إلى الأبد

نرى في هذه الأحكام أن موقف الله تجاه عمله وتدبيره ونحو البشريّة موقفٌ جاد وضميريّ وصارم ومسؤول. إنه يؤدي العمل الذي ينبغي تأديته بين البشر وفقًا لخطواته، ودون أدنى تناقضٍ، متحدّثًا بالكلمات التي ينبغي أن يتحدّث بها إلى البشريّة دون أدنى خطأ أو تقصير، مما يسمح للإنسان بأن يرى أنه لا يمكن فصله عن قيادة الله، ويريه مدى أهميّة كلّ ما يفعله الله ويقوله للبشريّة. بغضّ النظر عن طبيعة الإنسان في العصر التالي، في البداية – خلال عصر الناموس – فعل الله هذه الأشياء البسيطة. اعتبر الله أن مفاهيم الناس عنه وعن العالم والبشريّة في ذلك العصر كانت غامضة ومبهمة، ومع أنه كان لديهم بعض الأفكار والنوايا الواعية، إلا أنها جميعًا كانت غير واضحةٍ وغير صحيحة، ولهذا لا يمكن فصل البشريّة عن تعاليم الله وأحكامه لها. لم تكن البشريّة الأقدم تعرف شيئًا، وهكذا تعيّن على الله البدء في تعليم الإنسان ابتداءً من أكثر المبادئ السطحيّة والأساسيّة عن البقاء والأحكام الضروريّة للحياة، زارعًا هذه الأشياء في قلب الإنسان شيئًا فشيئًا. من خلال هذه القواعد، التي كانت مؤلفة من كلمات، ومن خلال هذه الأنظمة، وهب الإنسان فهمًا تدريجيًّا له، أي ـقديرًا تدريجيًا وفهمًا لقيادته، ومفهومًا أساسيًّا للعلاقة بينه وبين الإنسان. بعد تحقيق هذا التأثير تمكّن الله شيئًا فشيئًا من العمل في وقتٍ لاحق. وهكذا فإن هذه الأحكام والعمل الذي أتّمه الله خلال عصر الناموس هو أساس عمله لخلاص البشريّة، والمرحلة الأولى من العمل في خطّة تدبير الله. ومع أن الله كان قد تحدّث قبل عمل عصر الناموس إلى آدم وحواء ونسلهما، إلا أن تلك الوصايا والتعاليم لم تكن منهجيّة أو مُحدّدة بحيث يمكن إصدارها واحدة تلو الأخرى للإنسان، ولم تكن قد دُوّنت، ولم تصبح أحكامًا. يعود السبب في ذلك إلى أنه في ذلك الوقت لم تكن خطّة الله قد بلغت حدًا بعيدًا؛ ولكن عندما قاد الله الإنسان إلى هذه الخطوة بدأ بالتحدّث عن أحكام عصر الناموس هذه، وبدأ يطلب من الإنسان تنفيذها. كانت عمليةً ضروريّة، وكانت النتيجة حتميّة. تُبيّن هذه التقاليد والأحكام البسيطة للإنسان خطوات عمل تدبير الله وحكمته المعلنة في خطّة تدبيره. يعلم الله المحتوى والوسائل التي يجب استخدامها للبدء، والوسائل التي يجب استخدامها للاستمرار، والوسائل التي يجب استخدامها لوضع النهاية بحيث يتمكّن من ربح مجموعة من الأشخاص الذين يشهدون له، ومن ربح مجموعة من الأشخاص الذين يتفقون معه. إنه يعرف ما بداخل الإنسان، ويعرف ما ينقصه، ويعرف ما يجب عليه أن يُقدّمه، وكيف يجب عليه أن يقود الإنسان، وكذلك يعرف ما يجب وما لا يجب على الإنسان فعله. الإنسان أشبه بالدمية: مع أنه لم يكن لديه فهمٌ لإرادة الله، لم يسعه إلا أن انقاد بعمل تدبير الله، خطوةً بخطوةٍ، وحتّى اليوم. لم يُوجد غموضٌ في قلب الله حول ما كان يجب أن يفعله؛ فقد وُجدت في قلبه خطّةٌ واضحة وقويّة للغاية، وقد نفّذ العمل الذي رغب بنفسه في عمله وفقًا لخطواته وخطّته، متقدّمًا من السطحيّة إلى العمق. ومع أنه لم يُشِرْ إلى العمل الذي كان سيعمله في وقتٍ لاحق، فما زال يجري تنفيذ عمله اللاحق وتقدّمه في توافقٍ تام مع خطّته، وهو إظهارٌ لما لدى الله وما هو عليه، وهو أيضًا سلطان الله. بغضّ النظر عن أي مرحلةٍ يقوم الله بالعمل فيها من خطّة تدبيره، فإن شخصيّته وجوهره يمثلان ذاته. هذا صحيحٌ تمامًا. وبغضّ النظر عن العصر أو مرحلة العمل، فهناك أمور لن تتغير: أيّ نوعٍ من الناس يحبّه الله، وأيّ نوعٍ من الناس يمقته، وشخصيّته وكل ما لديه وما هو عليه. ومع أن هذه الأحكام والمبادئ التي أقرّها الله أثناء عمل عصر الناموس تبدو بسيطة جدًّا وسطحيّة في نظر الناس اليوم، ومع سهولة فهمها وتحقيقها، إلا أنها تتضمن حكمة الله وشخصيّته وما لديه وما هو عليه. ففي سياق هذه الأحكام التي تبدو بسيطة يُعبَّر عن مسؤوليّة الله ورعايته تجاه البشريّة وكذلك الجوهر الرائع لأفكاره، مما يسمح للإنسان بأن يُدرِك حقًّا أن الله يسود على جميع الأشياء ويتحكّم في جميع الأشياء. بغضّ النظر عن مدى المعرفة التي يملكها الإنسان، أو عدد النظريّات أو الألغاز التي يفهمها، يعتبر الله أن أيًّا منها لا يمكن أن يحلّ محلّ عطائه للبشريّة وقيادته لها؛ لن تنفصل البشريّة أبدًا عن إرشاد الله وعمل الله الشخصيّ. هذه هي العلاقة التي لا تنفصم بين الإنسان والله. بصرف النظر عمّا إذا كان الله يعطيك وصيّة أو لائحة، أو يُقدّم لك الحقّ لفهم إرادته، وبصرف النظر عما يفعله، فإن هدف الله هو إرشاد الإنسان إلى غدٍ جميل. الكلام الذي ينطق به الله والعمل الذي يُتّممه هما الإعلان عن جانبٍ واحد من جوهره، والإعلان عن جانبٍ واحد من شخصيّته وحكمته، وهما خطوةٌ لا غنى عنها في خطّة تدبيره. ينبغي عدم إغفال هذا! تكمن إرادة الله في كلّ ما يفعله؛ فالله لا يخاف من التصريحات التي في غير محلّها، ولا يخشى أيًّا من تصوّرات الإنسان أو أفكارِه عنه. إنه يعمل عمله وحسب، ويواصل تدبيره وفقًا لخطّة تدبيره، التي لا يُقيّدها أيّ شخصٍ أو مادة أو شيء.

حسنًا، سيكون هذا كلّ ما لدينا لهذا اليوم. أراكم في المرة القادمة!

9 نوفمبر/تشرين الثاني 2013

السابق: عمل الله، وشخصيّة الله، والله ذاته (1)

التالي: عمل الله، وشخصيّة الله، والله ذاته (3)

كيف يمكن لنا نحن المسيحيون أن نتحرَّر من رباطات الخطية ونتطهَّر؟ لا تتردد في الاتصال بنا لتجد الطريق.

إعدادات

  • نص
  • مواضيع

ألوان ثابتة

مواضيع

الخط

حجم الخط

المسافة بين الأسطر

المسافة بين الأسطر

عرض الصفحة

المحتويات

بحث

  • ابحث في هذا النص
  • ابحث في هذا الكتاب