كيفية السعي إلى الحق (19) الجزء الثالث

تنطوي توقعات الوالدين لأبنائهم على جانبين: الجانب الأول يتعلق بالتوقعات خلال السنوات التي يتشكل فيها أبناؤهم، والجانب الآخر يتعلق بالتوقعات عندما يصبح أبناؤهم راشدين. في المرة الماضية، تطرقت شركتنا بإيجاز إلى التوقعات عندما يصبح الأبناء راشدين. عمَّ عقدنا الشركة؟ (يا الله، في المرة الماضية عقدنا الشركة عن توقعات الوالدين بأن يحظى أبناؤهم الراشدون ببيئة عمل سلسة وزواج سعيد ومُرضٍ وحياة مهنية ناجحة). هذا تقريبًا ما عقدنا الشركة عنه. بعد أن يربي الآباء أبناءهم حتى سن الرشد، يصبح أبناؤهم راشدين، ويواجهون ظروفًا تتعلق بالعمل والحياة المهنية والزواج والأسرة والعيش بمفردهم على نحو مستقل، وحتى بتربية أبنائهم. هم سيتركون آباءهم وأمهاتهم ويستقلون بأنفسهم، ويواجهون كل مشكلة قد تواجههم في الحياة بمفردهم. لم يعد الآباء والأمهات يتحملون مسؤولية رعاية صحة أبنائهم الجسدية أو ينخرطون مباشرةً في حياتهم وعملهم وزواجهم وأسرهم وما إلى ذلك، لأن أبناءهم قد كبروا الآن. وبالطبع، بسبب الروابط العاطفية والعائلية، يمكن للوالدين تقديم رعاية سطحية، أو إسداء النصيحة من حين لآخر، أو تقديم بعض الاقتراحات أو المساعدة انطلاقًا من دور شخص ذي خبرة، أو تقديم الرعاية اللازمة بشكل مؤقت. باختصار، حالما يصبح الأبناء راشدين، يكون الوالدان قد تمما في الغالب مسؤولياتهما تجاه أبنائهما. لذلك، فإن بعض ما قد يكون لدى الوالدين من توقعات من أبنائهم الراشدين، على الأقل من وجهة نظري، غير ضرورية. لماذا هي غير ضرورية؟ لأنه، بصرف النظر عما يتوقع الآباء من الأبناء أن يصبحوا عليه – أو نوع الزواج الذي يتوقعون أن يحظوا به أو نوع الأسرة أو العمل أو المهنة، أو ما إذا كانوا سيصبحون أغنياء أم فقراء، أو أيًا ما قد تكون عليه توقعات الآباء – فهذه ليست أكثر من توقعات، وحياة أولادهم كراشدين في نهاية المطاف في أيديهم. بالطبع، من حيث الأساس، فإن قدر حياة ابنهم بأكملها – أو ابنتهم – وما إذا كان غنيًا أم فقيرًا، كل ذلك مقدَّر من الله. لا تقع على الوالدين أي مسؤولية أو التزام بالإشراف على هذه الأمور، ولا يحق لهما التدخل. ومن ثمَّ، فإن توقعات الوالدين هي مجرد نوع من التمنيات الطيبة القائمة على عواطفهم. ليس ثمة من الوالدين مَن يرغب في أن يكون ابنه فقيرًا، أو غير متزوج، أو مطلقًا، أو أن تكون أسرته مفككة، أو أن يعاني من صعوبات في العمل. لا أحد يتوقع هذه الأمور لابنه؛ فهم بلا شك يتوقعون الأفضل لأبنائهم. ورغم ذلك، إذا تعارضت توقعات الآباء مع واقع حياة أبنائهم، أو إذا خالف هذا الواقع توقعاتهم، فكيف ينبغي أن يتعاملوا مع هذا الأمر؟ هذا ما نحتاج إلى أن نعقد الشركة عنه. فيما يتعلق بالموقف الذي يجب أن يتبناه الوالدان تجاه أبنائهم الراشدين، مهما يكن نوع المعيشة التي يعيشها الأبناء، أو نوع قدرهم أو حياتهم فإنه – بخلاف مباركتهم في صمت ووجود توقعات جيدة لهم – لا يسع الوالدان سوى أن يتركا الأمر يحدث. لا يمكن لأي أب أو أم تغيير أي من هذا، ولا يمكن لأي منهم التحكم فيه. رغم أنك أنجبت أولادك وربيتهم، كما ناقشنا من قبل، فالآباء ليسوا سادة أقدار أولادهم. فالآباء والأمهات ينجبون الجسد المادي لأبنائهم ويربونهم حتى سن الرشد، لكن بخصوص نوع القدر الذي سيكون لدى أبنائهم، فليس هذا شيئًا يمنحه الوالدان أو يختارانه، ولا يقررانه بالتأكيد. أنت تتمنى لأبنائك أن يبلوا بلاءً حسنًا، لكن هل التمني يضمن لهم ذلك؟ أنت ترجو لهم ألا يصادفوا البَلية وسوء الحظ وكل أنواع الأحداث المؤسفة، ولكن هل هذا يعني أنهم سيتمكنون من تجنبها؟ بصرف النظر عما يواجهه أبناؤك، فإن أيًا من تلك الأمور لا يخضع لإرادة البشر، ولا يتحدد أي منها حسب احتياجاتك أو توقعاتك. بمَ يخبرك هذا إذن؟ بما أن الأبناء قد أصبحوا راشدين، وهم قادرون على الاعتناء بأنفسهم، وأن تكون لديهم أفكار وآراء مستقلة عن الأشياء، ومبادئ للتصرف، ونظرة إلى الحياة، ولم يعودوا تحت تأثير والديهم، أو سيطرتهما أو تقييدهما أو إدارتهما، فهم راشدون حقًا. ماذا يعني أنهم أصبحوا راشدين؟ يعني أنه ينبغي على والديهم التخلي. في اللغة المكتوبة، يسمى هذا بـ "التخلي"، وهو السماح للأبناء بالاستكشاف بشكل مستقل واتخاذ مسارهم الخاص في الحياة. ماذا نقول في اللغة المنطوقة؟ "تنح جانبًا". بعبارة أخرى، يجب على الآباء التوقف عن إعطاء الأوامر لأبنائهم الراشدين، وقول أشياء مثل: "ينبغي أن تبحث عن هذه الوظيفة، ينبغي أن تعمل في هذا المجال. لا تفعل ذلك، فهو محفوف بالمخاطر!". هل من اللائق أن يأمر الوالدان أبناءهم الراشدين؟ (لا، ليس من اللائق). إنهم يرغبون دائمًا في إبقاء حياة أبنائهم الراشدين وعملهم وزواجهم وأسرتهم تحت سيطرتهم وضمن نطاق رؤيتهم، فيشعرون بالقلق والهم والخوف ويصبحون منشغلي البال إذا لم يعلموا بأمر ما أو لم يستطيعوا السيطرة عليه، قائلين: "ماذا لو لم يدرس ابني هذا الأمر بعناية؟ هل يمكن أن يقع في مشكلة قانونية؟ ليس لدي المال الكافي لدعوى قضائية! إذا قوضي ولم يكن هناك مال، هل يمكن أن ينتهي به الأمر في السجن؟ إذا دخل السجن، فهل يمكن أن يتهمه الأشرار زورًا، ويُسجن لمدة ثماني سنوات أو عشر؟ هل ستهجره زوجته؟ من سيعتني بالأطفال؟" كلما زاد تفكيرهم في الأمر، زاد ما يصيبهم بالهم. "عمل ابنتي لا يسير على ما يرام: الناس يسيئون معاملتها دائمًا، ورئيسها في العمل لا يحسن معاملتها كذلك. ماذا يمكننا أن نفعل؟ هل ينبغي أن نجد لها وظيفة أخرى؟ هل نستخدم بعض النفوذ ونجري بعض الاتصالات وننفق بعض المال ونحصل لها على وظيفة في دائرة حكومية، حيث يمكنها أن تحمل عبئًا خفيفًا كل يوم كموظفة حكومية؟ رغم أن الراتب ليس مرتفعًا، فلن تُساء معاملتها على الأقل. لم نكن نستطيع أن نحمل أنفسنا على ضربها عندما كانت صغيرة وكنا ندللها كأميرة، أما الآن فهي تتعرض لسوء المعاملة من الآخرين. ماذا ينبغي أن نفعل؟" يصيبهما الهم إلى درجة أنهما لا يستطيعان الأكل أو النوم، وتتقرح أفواههما من القلق. متى واجه أبناؤهما أي شيء، يصبحان قلقين وينزعجان بشدة، ويريدان أن يتدخلا في كل شيء، وأن يحلا محلهما في كل موقف. متى يمرض أبناؤهما أو يواجهون بعض الصعوبات، يشعران بالألم والبؤس ويقولان: "أريدك أن تكون بخير فحسب. لماذا لست بخير؟ أريد أن يسير كل شيء بسلاسة لك، أريد أن يسير كل شيء كما تتمنى، وكما خططت له. أريدك أن تستمتع بالنجاح، لا أن تكون سيئ الحظ، أو أن تُغَش، أو أن تُلفَق لك تهمة وتواجه مشكلات قانونية!" بعض الأبناء يأخذون رهنًا عقاريًا على منزل، وقد يستمر الرهن العقاري لمدة ثلاثين عامًا أو حتى خمسين. يبدأ آباؤهم في القلق: "متى ستُسدَّد كل هذه القروض؟ أليس هو هكذا عبدًا للرهن؟ لم يكن جيلنا بحاجة إلى رهن عقاري لشراء منزل. كنا نعيش في شقق توفرها شركات وندفع الإيجار بضعة دولارات كل شهر. كنا نشعر أنَّ وضعنا المعيشي مريح للغاية. في الوقت الحاضر، الأمر صعب حقًا بالنسبة إلى هؤلاء الشباب؛ الأمر ليس سهلاً عليهم بالفعل. إنهم يُضطَرُّون إلى الحصول على رهن عقاري، ورغم أنهم يعيشون حياة جيدة، فإنهم يعملون بجد كل يوم؛ إنهم منهكون! غالبًا ما يسهرون لوقت متأخر ليعملوا ساعات إضافية، ومواعيد أكلهم ونومهم غير منتظمة، ودائمًا ما يتناولون الوجبات الجاهزة. تعاني معدتهم وكذلك صحتهم. يجب أن أطهو لهم وأنظف منزلهم. وعليَّ أن أرتب لهم المنزل لأنهم لا يملكون الوقت؛ فحياتهم في فوضى. أنا الآن سيدة عجوز وعظامي بالية، ولا يمكنني فعل الكثير، لذا سأصبح خادمتهم. إذا استأجروا خادمة حقيقية، فسيتعين عليهم إنفاق المال، وقد لا تكون جديرة بالثقة. لذا، سأكون خادمتهم مجانًا". وهكذا تصبح خادمة تنظف منزل أبنائها كل يوم، وترتب البيت، وتطبخ عندما يحين وقت الطعام، وتشتري الخضروات والحبوب، وتتحمل مسؤوليات لا حصر لها. تنتقل من كونها والدة إلى خادمة عجوز، وصيفة. عندما يعود أبناؤها إلى المنزل وليسوا في مزاج جيد، يتعين عليها أن تراقب تعبيرات وجوههم وتتحدث بحذر إلى أن يصبح أبناؤها سعداء مجددًا، وحينها فقط يمكنها أن تكون سعيدة. تسعد عندما يكون أبناؤها سعداء، وتقلق عندما يكون أبناؤها قلقين. هل هذه طريقة قيِّمة للعيش؟ إنها لا تختلف عن أن يفقد المرء ذاته.

هل من الممكن أن يتحمل الآباء والأمهات تكلفة أقدار أبنائهم؟ الأبناء على استعداد لتحمل أي مشاق تعترض طريقهم من أجل السعي وراء الشهرة والربح والملذات الدنيوية. علاوةً على ذلك، هل من المقبول لهم – بوصفهم راشدين – أن يواجهوا أي مشاق ضرورية لبقائهم على قيد الحياة؟ بقدر ما يستمتعون بقدر ما يجب أن يكونوا أيضًا مستعدين للمعاناة، فهذا أمر طبيعي. لقد تمم آباؤهم مسؤولياتهم، فلا ينبغي أن يتحملوا الفاتورة بصرف النظر عما يريد الأبناء الاستمتاع به. مهما يكن مدى جودة الحياة التي يريد الوالدان لأبنائهم أن يحظوا بها، إذا أراد الأبناء الاستمتاع بالأشياء الطيبة، فعليهم أن يتحملوا كل الضغوط والمعاناة بأنفسهم، لا أن يتحملها والداهم. لذلك، إذا كان الآباء والأمهات يريدون دائمًا أن يفعلوا كل شيء من أجل أبنائهم وأن يتحملوا تكلفة مشاقهم، وأن يصبحوا – طواعية – عبيدًا لهم، أليس هذا إفراطًا؟ إنه غير ضروري لأنه يتجاوز ما يجب أن يُنتظر من الوالدين القيام به. وثمة سبب رئيسي آخر هو أنه مهما تفعل من أجل أولادك أو مهما يبلغ مقداره، فلا يمكنك تغيير قدرهم أو تخفيف معاناتهم. كل شخص يحاول أن يتدبر أمره في المجتمع، سواء كان يسعى إلى الشهرة والمكسب أو يسلك الطريق الصحيح في الحياة، فيجب عليه بوصفه راشدًا أن يتحمل المسؤولية عن رغباته ومُثُله، ويجب أن يدفع ثمنها بنفسه. لا ينبغي لأحد أن يتحمل أي شيء نيابة عنه؛ ولا حتى والداه؛ مَن أنجباه وربياه، والأشخاص الأقرب إليه، ليسوا ملزمين بدفع تكاليفه أو مشاركته في معاناته. لا يختلف الآباء والأمهات في هذا الصدد لأنهم لا يستطيعون تغيير أي شيء. ولذلك، فإن أي شيء تفعله من أجل أولادك هو سُدى. ولأنه سُدى، يجب أن تتخلى عن هذا المسلك. رغم أن الوالدين قد يكونان كبيرين في السن وقد تمَّما بالفعل مسؤولياتهما والتزاماتهما تجاه أولادهما، ورغم أن أي شيء يفعله الوالدان لا أهمية له في نظر أولادهما، فلا يزال ينبغي أن يكون لهما كرامتهما الخاصة، ومساعيهما الخاصة، وإرساليتهما الخاصة التي يجب أن يتمماها. يجب عليك بصفتك شخصًا يؤمن بالله ويسعى إلى الحق والخلاص أن تنفق ما تبقى لك من طاقة ووقت في حياتك في أداء واجبك وفي كل ما ائتمنك الله عليه، ولا يجب أن تنفق أي وقت على أولادك. حياتك ليست ملكًا لأولادك، ولا ينبغي أن تستهلكها من أجل حياتهم أو بقائهم، ولا في إرضاء توقعاتك منهم. يجب بدلاً من ذلك أن تكون مكرسة للواجب والمهمة المؤتمَنة التي أعطاها الله لك، وكذلك الإرسالية التي يجب أن تتممها بوصفك كائنًا مخلوقًا. هنا تكمن قيمة حياتك ومعناها. إذا كنت راغبًا في أن تفقد كرامتك وتصبح عبدًا لأبنائك وتقلق عليهم وتفعل أي شيء من أجلهم، من أجل إرضاء توقعاتك لهم، فكل هذا لا معنى له وخالٍ من القيمة، ولن يُذكر. إذا أصررت على ذلك ولم تتخلَّ عن هذه الأفكار والأفعال، فلا يمكن أن يعني هذا سوى أنك لست شخصًا يسعى إلى الحق، وأنك لست كائنًا مخلوقًا مؤهلًا، وأنك متمرد إلى حد كبير. أنت لا تعتز بالحياة ولا بالوقت اللذين منحك الله إياهما. إذا كانت حياتك وأوقاتك تُنفقان فقط من أجل جسدك وعواطفك، وليس من أجل الواجب الذي أعطاك الله إياه، فإن حياتك غير ضرورية وخالية من القيمة. أنت لا تستحق أن تعيش، أنت لا تستحق أن تستمتع بالحياة التي أعطاك الله إياها، ولا تستحق أن تستمتع بكل ما أعطاك الله إياه. لقد منحك الله الأبناء لتستمتع بعملية تربيتهم فحسب، ولتكتسب منها اختبار الحياة والمعرفة بوصفك والدًا، وليسمح لك بتجربة شيء مميز وغير عادي في الحياة البشرية، ثم ليسمح لذريتك بالتكاثر...وهو بالطبع، من أجل تتميم مسؤولية الكائن المخلوق بوصفك والدًا. إنها المسؤولية التي قدَّر الله لك أن تتممها تجاه الجيل القادم، وكذلك الدور الذي تقوم به بوصفك والدًا للجيل القادم. هذا، من ناحية، لكي تمر بهذه العملية الاستثنائية المتمثلة في تربية الأبناء، ومن ناحية أخرى، لكي تلعب دورًا في تكاثر الجيل القادم. فور أن يُتَمَّمَ هذا الالتزام، ويكبر أطفالك ويصبحوا راشدين، سواء أصبحوا ناجحين للغاية أو ظلوا أفرادًا غير بارزين وعاديين وبسطاء، فليس لهذا علاقة بك، لأنك لست من يحدد مصيرهم، ولا هو اختيارك، وأنت بالتأكيد لم تعطهم إياه؛ إنما هو مقدَّر من الله. وبما أنه مُقدَّر من الله، يجب ألا تتدخل أو تقحم أنفك في حياتهم أو في بقائهم. إن عاداتهم، وروتينهم اليومي، وموقفهم تجاه الحياة، وأيًا كانت استراتيجيات البقاء التي لديهم، وأيًا كانت نظرتهم للحياة، وأيًا كان موقفهم تجاه العالم؛ هذه كلها خياراتهم الخاصة، وهي ليست من شأنك. ليس عليك التزام بتصحيحها أو بتحمل أي معاناة نيابة عنهم لضمان أن يكونوا سعداء كل يوم. كل هذه الأمور غير ضرورية. إن قدر كل شخص يحدده الله؛ لذا، فإن مقدار البركة أو المعاناة التي يختبرها في الحياة، ونوع الأسرة والزواج والأطفال، والاختبارات التي يمر بها في المجتمع، والأحداث التي يختبرها في الحياة، هو نفسه لا يستطيع التنبؤ بمثل هذه الأشياء أو تغييرها، وقدرة الوالدين على تغييرها أقل حتى من قدرته. لذلك، إذا واجه الأبناء أي صعوبات، فيجب على الوالدين المساعدة بشكل إيجابي واستباقي إذا كانت لديهم القدرة على القيام بذلك. وإذا لم تكن لديهم القدرة، فمن الأفضل للوالدين الاسترخاء ورؤية هذه الأمور من منظور الكائنات المخلوقة، ومعاملة أبنائهم على قدم المساواة بصفتهم كائنات مخلوقة. فالمعاناة التي تختبرها أنت، لا بد أن يختبروها هم أيضًا؛ والحياة التي تعيشها أنت، لا بد أن يعيشوها هم أيضًا؛ والعملية التي مررت بها في تربية أطفال صغار، سيمرون بها أيضًا؛ والتقلبات والمنعطفات التي اختبرتها في المجتمع وبين الناس والغش والخداع، والتشابكات العاطفية والصراعات بين الأشخاص، وكل شيء مماثل مررت به، هم أيضًا سيمرون به. إنهم – مثلك – جميعهم بشر فاسدون، وجميعهم تجرفهم تيارات الشر بعيدًا، ويفسدهم الشيطان؛ لا يمكنك الهروب من ذلك، ولا هم أيضًا. ولذلك، فإن الرغبة في مساعدتهم على تجنب كل المعاناة والتمتع بكل البركات الموجودة في العالم هو وهم سخيف وفكرة حمقاء. مهما اتسعت أجنحة النسر، فلا يمكنها أن تحمي النسر الصغير طوال حياته. سيصل النسر الصغير في النهاية إلى مرحلة لا بد فيها أن يكبر ويطير بمفرده. عندما يختار النسر الصغير أن يطير بمفرده، لا أحد يعرف حيثما قد تكون رقعته من السماء، أو أين سيختار الطيران. ولذلك، فإن الموقف الأكثر عقلانية للآباء والأمهات بعد أن يكبر أبنائهم هو أن يتخلوا عنهم، وأن يتركوهم يختبرون الحياة بمفردهم، وأن يتركوهم يعيشون مستقلين، ويواجهون مختلف التحديات في الحياة ويتعاملون معها ويحلونها بشكل مستقل. إذا طلبوا المساعدة منك وكانت لديك القدرة والظروف للقيام بذلك، فيمكنك بالطبع أن تمد يد العون وتقدم المساعدة اللازمة. رغم ذلك، فإن الشرط الأساسي هو أنه مهما تكن المساعدة التي تقدمها، سواء كانت مساعدة مالية أو نفسية، فإنها ستكون مؤقتة فقط ولا يمكنها تغيير أي مشكلات جوهرية. يجب عليهم أن يشقوا طريقهم في الحياة بأنفسهم، ولست ملزمًا بتحمل أي من شؤونهم أو تبعاتهم. هذا هو الموقف الذي يجب أن يتخذه الآباء والأمهات تجاه أبنائهم الراشدين.

بعد أن فهمنا الموقف الذي ينبغي أن يتخذه الآباء تجاه أبنائهم الراشدين، هل ينبغي على الآباء أيضًا أن يتخلوا عن توقعاتهم لأبنائهم الراشدين؟ بعض الآباء الجهلاء لا يستطيعون استيعاب الحياة أو القدر، ولا يدركون سيادة الله، وغالبًا ما يقومون بأشياء تتسم بالجهل عندما يتعلق الأمر بأبنائهم. على سبيل المثال، قد يواجه أبناؤهم، بعد أن يصبحوا مستقلين، بعض الأوضاع الخاصة أو المشاق أو الحوادث الكبيرة؛ بعضهم يواجهون الأمراض، وبعضهم يتورطون في دعاوى قضائية، وبعضهم يُطلَّقون، وبعضهم يُخدعون ويُحتال عليهم، وبعضهم يُختطفون أو يتعرضون للأذى أو يُضربون ضربًا مبرحًا أو يواجهون الموت. يوجد حتى مَن يسقطون في هوة تعاطي المخدرات، وما إلى ذلك. ماذا يجب أن يفعل الآباء في هذه المواقف الخاصة والمهمة؟ ما هو رد الفعل النموذجي لمعظم الآباء والأمهات؟ هل يفعلون ما يتعين عليهم فعله بوصفهم كائنات مخلوقة لها هوية الأب والأم؟ نادرًا ما يحدث أن يسمع الآباء والأمهات مثل هذه الأخبار ويتفاعلون معها كما لو كان الأمر قد حدث لشخص غريب. معظم الآباء والأمهات يسهرون طوال الليل حتى يشيب شعرهم، ويجافيهم النوم ليلة تلو الليلة، وتنعدم شهيتهم في أثناء اليوم، ويمعنون في التفكير، بل إن بعضهم يبكون بمرارة حتى تحمر عيونهم وتجف دموعهم. إنهم يصلون بحرارة إلى الله أن يراعي إيمانهم ويحمي أولادهم ويُنعم عليهم ويباركهم ويرحمهم وينقذ حياتهم. بوصفهم آباءً وأمهات في مثل هذا الوضع، تُكشَف جميع نقاط ضعفهم وجوانب هشاشتهم ومشاعرهم البشرية تجاه أبنائهم. ما الذي يُكشَف أيضًا؟ تمردهم على الله. إنهم يتضرعون إلى الله ويصلون إليه، متوسلين إليه أن يحفظ أولادهم من المصائب. حتى لو حدثت كارثة، فإنهم يصلون من أجل ألا يموت أولادهم، وأن ينجوا من الخطر، وألا يؤذيهم الأشرار، وألا تزداد أمراضهم وطأة، بل تتحسن، وهكذا. ما الذي يصلون من أجله حقًا؟ (يا الله، إنهم بهذه الصلوات يطلبون مطالب من الله بنبرة تذمر). من ناحية، هم غير راضين تمامًا عن محنة أولادهم، ويشتكون من أنه ما كان ينبغي أن يسمح الله بحدوث مثل هذه الأشياء لأولادهم. يمتزج عدم رضاهم بالشكوى، ويطلبون من الله أن يعدل عن رأيه، وألا يتصرف هكذا، وأن ينجي أولادهم من الخطر، ويحفظهم في أمان، ويشفي أمراضهم، ويساعدهم على الهروب من الدعاوى القضائية، ويجنبهم المصائب عند حدوثها، وهكذا؛ باختصار، أن يجعل كل شيء يسير على ما يرام. بالصلاة على هذا النحو، هم من ناحية يشتكون إلى الله، ومن ناحية أخرى يطلبون منه بعض المطالب. أليس هذا مظهرًا من مظاهر التمرد؟ (بلى). إنهم يقولون ضمنيًا إن ما يفعله الله ليس صحيحًا أو صالحًا، وإنه ينبغي ألا يتصرف هكذا. لأن هؤلاء أبناؤهم وهم مؤمنون، فهم يعتقدون أن الله لا ينبغي أن يسمح بحدوث مثل هذه الأشياء لأبنائهم. أبناؤهم مختلفون عن الآخرين، ويجب أن يتلقوا بركات تفضيلية من الله. بسبب إيمانهم بالله، يتعين على الله أن يبارك أطفالهم؛ وإن لم يفعل، يصيبهم الضيق ويبكون ويصابون بنوبة غضب ولا يعودوا يريدون أن يتبعوا الله. وإذا مات طفلهم، يشعرون بأنهم هم أيضًا لا يستطيعون الاستمرار في الحياة. هل هذا هو الشعور الذي يدور في خاطرهم؟ (نعم). أليس هذا شكل من أشكال الاحتجاج على الله؟ (إنه كذلك). هذا احتجاج على الله. إنه مثل الكلاب التي تطالب بإطعامها في وقت الطعام، وتنتابها نوبة غضب إذا تأخر ولو قليلاً. يمسكون الوعاء في أفواههم ويضربون به الأرض؛ أليس هذا غير معقول؟ (بلى). في بعض الأحيان، إذا أعطيتها اللحم لبضعة أيام متتالية لكن فَوَّتَّ يومًا واحدًا دون لحم، فقد تقوم الكلاب في مزاجها الحيواني بإلقاء طعامها على الأرض، أو تأخذ الوعاء في فمها وتضرب به الأرض، وهي بذلك تخبرك أنها تريد أن تُعطيها اللحم، وأن اللحم هو ما تعتقد أنه يجب أن تعطيها إياه، وأن عدم إعطائها اللحم غير مقبول. يمكن أن يكون الناس على القدر نفسه من عدم المعقولية. عندما يواجه أبناؤهم متاعب، فإنهم يشتكون إلى الله ويطلبون منه ويحتجون عليه. أليس هذا هو سلوك الحيوانات بشكل أو بآخر؟ (بلى). الحيوانات لا تفهم الحق أو ما يسمى بتعاليم الناس ومشاعرهم الإنسانية. عندما تنتابها نوبات غضب أو تتصرف على نحو غير ملائم، فهذا أمر مفهوم إلى حد ما. لكن عندما يحتج الناس على الله بهذه الطريقة؛ هل هم يتصرفون بمعقولية؟ هل يمكن مسامحتهم؟ إذا تصرَّفت الحيوانات بهذه الطريقة، فقد يقول الناس: "هذا الصغير حاد المزاج. إنه حتى يعرف كيف يحتج؛ هذه براعة منه. أعتقد أنه يجدر بنا ألا نستهين به". هم يجدون الأمر مسليًا، ويعتقدون أن هذا الحيوان بعيد كل البعد عن البساطة. لذا، عندما تنتاب حيوان ما نوبة غضب، فإن الناس ينظرون إليه نظرة أكثر تقديرًا. إذا احتج شخص ما على الله، فهل ينبغي أن ينظر إليه الله بنفس النظرة ويقول: "هذا الشخص يأتي بمثل هذه المطالب، فهو بعيد كل البعد عن البساطة!" هل سيقدِّرك الله بهذا الشكل؟ (كلا). إذن، كيف يعرِّف الله هذا السلوك؟ أليس هذا تمردًا؟ (إنه كذلك). ألا يعرف الناس الذين يؤمنون بالله أن هذا السلوك خاطئ؟ ألم يمضِ عهد "إيمان الشخص بالرب يجلب البركات على الأسرة بالكامل" منذ زمنٍ طويل؟ (بلى، لقد مضى). إذن لماذا لا يزال الناس يصومون ويصلون هكذا، ويتوسلون إلى الله بوقاحة أن يحمي أبناءهم ويباركهم؟ لماذا لا يزالون يتجرؤون على الاحتجاج على الله ومخاصمته قائلين: "إذا لم تفعل هكذا، فسأستمر في الصلاة؛ وسأصوم!" ماذا يعني الصوم؟ إنه يعني الإضراب عن الطعام، وهو بمعنى آخر تصرف بوقاحة والدخول في نوبة غضب. عندما يتصرف الناس تجاه الآخرين بوقاحة، قد يضربون الأرض بأقدامهم قائلين: "أواه، لقد رحل طفلي؛ لا أريد أن أعيش بعد الآن، لا أستطيع الاستمرار!". هم لا يفعلون هذا عندما يقفون أمام الله؛ إنما يتحدثون بتأدب شديد قائلين: "يا الله، أتوسل إليك أن تحمي طفلي وتشفي مرضه. يا الله، أنت أعظم طبيب يخلِّص الناس؛ أنت قادر على كل شيء. أتوسل إليك أن ترعاه وتحميه. روحك في كل مكان؛ أنت بارٌّ؛ أنت إله رحيم بالناس. أنت تعتني بهم وتعزهم". ما المقصود بهذا؟ لا شيء مما يقولونه خاطئ، لكن ليس هذا هو الوقت المناسب لقول مثل هذه الأشياء. المعنى الضمني هو أنه إذا لم يحفظ الله طفلك ويحميه، وإذا لم يحقق رغباتك، فهو ليس إلهًا محبًا، وهو خالٍ من المحبة، وليس إلهًا رحيمًا، وليس إلهًا. أليس هذا هو الحال؟ أليس هذا تصرُّفًا وقحًا؟ (بلى). هل الناس الذين يتصرَّفون بلا حياءٍ يبجِّلون الله بصفته عظيمًا؟ هل لديهم قلوب تتقي الله؟ (كلا). الناس الذين يتصرَّفون بلا حياء هم كالأوغاد تمامًا؛ إنهم يفتقرون إلى قلوب تتقي الله. إنهم يتجرؤون على مخاصمة الله والاحتجاج عليه، بل إنهم يتصرفون بطريقة غير معقولة. أليس هذا هو الشيء نفسه مثل البحث عن الموت؟ (بلى). لماذا أولادك مميزون للغاية؟ عندما يرتب الله مصير شخص آخر أو يحكمه، فأنت تعتقد أنه لا بأس بذلك ما دام لا يمت لك بصلة. لكنك تعتقد أنه لا ينبغي أن يكون قادرًا على أن يحكم مصير أولادك؟ في عينيِّ الله، البشرية كلها تحت سيادة الله، ولا يمكن لأحد أن يفلت من سيادة الله والترتيبات التي وضعها بيديه. لماذا ينبغي أن يكون أولادك استثناءً؟ إن سيادة الله مُقدَّرة ومخطَّط لها منه. هل يجوز لك أن ترغب في تغييرها؟ (كلا، لا يجوز). لا يجوز. لذلك، يجب ألا يفعل الناس أشياء حمقاء أو غير معقولة. كل ما يفعله الله يستند إلى أسباب وآثار من الحيوات السابقة؛ فما علاقة ذلك بك؟ إذا قاومت سيادة الله، فأنت تبحث عن الموت. إذا كنت لا تريد أن يختبر أولادك هذه الأشياء، فهذا نابع من المودة، وليس من العدل أو الرحمة أو العطف؛ إنه بسبب تأثير مودتك فحسب. المودة هي المتحدث باسم الأنانية. هذه المودة التي لديك لا تستحق التباهي بها؛ فأنت لا تستطيع حتى أن تبررها لنفسك، ورغم ذلك لا تزال ترغب في استخدامها لابتزاز الله. البعض حتى يقولوا: "ابني مريض، وإذا مات، فلن أستمر في الحياة!" أتملك حقاً الجرأة على الموت؟ جرب أن تموت إذن! هل إيمان مثل هؤلاء الناس حقيقي؟ هل ستتوقف حقًا عن الإيمان بالله إذا مات ابنك؟ ما الذي يمكن أن يغيره موته؟ إذا لم تؤمن بالله، فلن تتغير هويته ولا مكانته. سيظل الله هو الله. إنه ليس الله لأنك تؤمن به، ولن يتوقف عن كونه الله بسبب عدم إيمانك به. حتى لو لم تؤمن البشرية كلها بالله، ستبقى هوية الله وجوهره دون تغيير. ستبقى مكانته دون تغيير. سيظل دائمًا هو مَن له السيادة على مصير البشرية جمعاء وعلى العالم الكوني. لا علاقة للأمر بما إذا كنت تؤمن أو لا. إذا آمنت، فسينعم عليك، وإذا لم تؤمن فلن تكون لديك فرصة الخلاص، ولن تناله. أنت تحب أولادك وتحميهم، وتكِنُّ لهم المودة، ولا يمكنك التخلي عنهم، ولذلك لا تسمح لله بعمل أي شيء. هل هذا منطقي؟ هل يتماشى هذا مع الحق أو مع الأخلاق أو مع الإنسانية؟ إنه لا يتماشى مع أي شيء، ولا حتى مع الأخلاق، أليس هذا صحيحًا؟ أنت لا تعتز بأطفالك، أنت تقيهم؛ أنت تحت تأثير مودتك. أنت حتى تقول إنه إن مات طفلك، فلن تواصل الحياة. بما أنك غير مسؤول تجاه حياتك ولا تعتز بالحياة التي وهبك الله إياها، إذا كنت ترغب في العيش من أجل أولادك، فامض قدمًا ومت معهم. ألن يكون ذلك سهلاً؟ بعد أن تموت وتصل إلى عالم الروح، يمكنك أن تتحقق وترى: هل أنت وأولادك أرواح من النوع نفسه؟ هل لا زالت بينكما العلاقة الجسدية نفسها؟ هل لا زالت بينكما مودة تجاه أحدكما الآخر؟ عندما تعود إلى العالم الآخر، ستتغير. أليس هذا حقيقيًا؟ (بلى). عندما ينظر الناس إلى الأشياء بأعينهم ويحكمون على ما إذا كانت جيدة أو سيئة، أو على طبيعتها، علام يعتمدون؟ يعتمدون على أفكارهم. بمجرد النظر إلى الأشياء بأعينهم، لا يمكنهم رؤية ما وراء العالم المادي؛ لا يمكنهم رؤية العالم الروحي. في أي شيء سيفكر الناس في أذهانهم؟ "في هذا العالم، مَن أنجباني وربياني هما الأقرب والأعز إليَّ. أنا أيضًا أحب من أنجباني وربياني. وبغض النظر عن الزمان، فإن طفلي هو الأقرب إليَّ دائمًا، وطفلي هو أكثر مَن أعتز به دائمًا". هذا هو مدى المشهد الذهني وأفقه لديهم؛ هذا هو مدى "اتساع" المشهد الذهني لديهم. هل هذا قول أحمق أم لا؟ (إنه أحمق). أليس طفوليًا؟ (إنه طفولي). طفولي جدًا! لا يرتبط بك أولادك في هذه الحياة سوى بالدم؛ ماذا عن حياتهم الماضية، كيف كانوا يرتبطون بك آنذاك؟ أين سيذهبون بعد أن يموتوا؟ حالما يموتون، يلفظ جسدهم أنفاسه الأخيرة، وتخرج نفسهم، ويودعونك تمامًا. لن يعودوا يتعرفون عليك، ولن يبقوا حتى لثانية واحدة، سيعودون ببساطة إلى العالم الآخر. عندما يعودون إلى ذلك العالم الآخر، تبكي، وتفتقدهم وتشعر بالبؤس والعذاب، وتقول: "آه، لقد رحل ولدي، ولن أتمكن من رؤيته مرة أخرى أبدًا!" هل للشخص الميت أي وعي؟ ليس لديه أي وعي بك، ولا يفتقدك على الإطلاق. حالما يغادر روحه جسده، يصبح على الفور طرفًا ثالثًا، ولا تعود تربطه بك أي علاقة. كيف ينظر إليك؟ يقول: "تلك السيدة العجوز؛ ذلك الرجل العجوز – على من يبكيان؟ إنهما يبكيان على جسد. أشعر أنني انفصلت للتو عن ذلك الجسد: لم أعد ثقيلًا جدًّا الآن، ولم أعد أشعر بألم المرض؛ أنا حر". هذا ما يشعر به. بعد أن يموت ويغادر جسده، يستمر في الوجود في العالم الآخر؛ يظهر في شكل مختلف، ولا تعود له أي علاقة بك. أنت تبكي وتشتاق إليه هنا، وتتألم من أجله، لكنه لا يشعر بأي شيء، ولا يعرف شيئًا. بعد سنوات عديدة، وبسبب المصير أو المصادفة، قد يصبح زميلك في العمل، أو أحد أبناء بلدك، أو قد يعيش بعيدًا عنك. رغم أنكما تعيشان في العالم نفسه، ستكونان شخصين مختلفين لا صلة بينكما. حتى وإن أدرك بعض الناس بسبب ظروف خاصة أو بسبب شيء خاص قيل لهم أنهم كانوا فلانًا في الحياة السابقة، فإنهم لا يشعرون بشيء عندما يرونك، ولا تشعر أنت بشيء عندما تراهم. حتى لو كان هذا الشخص ولدك في الحياة السابقة، فأنت الآن لا تشعر حياله بأي شيء؛ أنت لا تفكر إلا في ولدك المتوفى. وهو أيضًا لا يشعر بأي شيء حيالك: لديه أب وأم وعائلة، وله لقب مختلف؛ لا تربطه بك أي صلة. ولكنك ما تزال هناك تفتقده؛ ما الذي تفتقده؟ أنت لا تفتقد سوى الجسد المادي والاسم الذي كان ذات وقت تربطك به صلة دم؛ إنه مجرد صورة، ظل باقٍ في أفكارك أو عقلك؛ ليس له قيمة فعلية. لقد تجسد من جديد، وتحول إلى إنسان أو أي كائن حي آخر؛ لا تربطه بك صلة. لذلك، عندما يقول بعض الآباء والأمهات: "إذا مات ولدي، فأنا أيضًا لن أستمر في الحياة!"؛ فإنَّ هذا جهل صريح فحسب! لقد وصلت حياته إلى نهايتها، لكن لماذا يجب عليك التوقف عن الحياة؟ لماذا تتكلم بهذا الاستهتار؟ لقد وصلت حياته إلى نهايتها، وقد انطفأ فتيله، ولديه مهمة أخرى؛ ما شأنك أنت بهذا الأمر؟ إذا كانت لديك مهمة أخرى، فسيطفئ الله فتيلك أيضًا؛ لكن هذا لم يحدث بعد، لذا عليك الاستمرار في الحياة. إذا أراد الله لك الحياة فلا يمكن أن تموت. سواء تعلق الأمر بالوالدين أو الأولاد أو غيرهم من الأقارب أو الذين تربطك بهم صلة دم في حياتهم، فيما يتعلق بالمودة، ينبغي أن يكون لدى الناس الرأي والفهم التاليان: بخصوص المودة الموجودة بين الناس، إذا كانت مرتبطة بصلة دم، فإن تتميم المرء لمسؤوليته يكفي. وبخلاف تتميم الناس لمسؤولياتهم، ليس لديهم التزام لتغيير أي شيء ولا قدرة على ذلك. لهذا، من عدم المسؤولية أن يقول الآباء والأمهات: "إذا رحل أبناؤنا؛ إذا كان علينا كآباء أن ندفن أبناءنا، فلن نستمر في الحياة". إذا دفن الآباء أبناءهم فعلًا، فلا يمكن قول إلا إنَّ ساعتهم في هذا العالم قد حانت، وكان عليهم أن يرحلوا. لكن آباءهم لا يزالون هنا، لذا يجب أن يستمروا في الحياة بشكل جيد. بالطبع، من الطبيعي للناس، وفقًا لإنسانيتهم، أن يفكروا في أبنائهم، لكن لا ينبغي أن يضيعوا ما تبقى لهم من وقت في اشتياقهم لأبنائهم المتوفين. هذه حماقة. لذلك عند التعامل مع هذا الأمر، يجب على الناس من ناحية أن يتحملوا مسؤولية حياتهم الخاصة، ويجب، من ناحية أخرى، أن يستوعبوا العلاقات الأسرية استيعابًا كاملًا. إن العلاقة الموجودة حقًا بين الناس ليست قائمة على روابط اللحم والدم، بل هي علاقة بين كائن حي وآخر خلقهما الله. لا ينطوي هذا النوع من العلاقات على روابط اللحم والدم؛ بل هي علاقة بين كائنين حيين مستقلين فحسب. إذا فكرتم في الأمر من هذه الزاوية، فعليكم كآباء وأمهات عندما يحالف سوء الحظ أطفالكم ويمرضون أو تتعرض حياتهم للخطر، أن تواجهوا هذه الأمور بشكل صحيح. لا ينبغي أن تتخلوا عن الوقت المتبقي لكم، أو الطريق الذي يجب أن تسلكوه، أو المسؤوليات والالتزامات التي يجب أن تتمموها، بسبب مصائب أبنائكم أو وفاتهم؛ يجب أن تواجهوا هذا الأمر بشكل صحيح. إذا كانت لديكم الأفكار ووجهات النظر الصحيحة واستطعتم رؤية حقيقة هذه الأمور، فستتمكنون بسرعة من التغلب على اليأس والحزن والشوق. ولكن ماذا لو لم تستطيعوا رؤيتها على حقيقتها؟ حينئذٍ، قد تطاردك لبقية حياتك، حتى يوم مماتك. رغم ذلك، إذا استطعت أن ترى حقيقة هذا الظرف، فسيكون هناك حد لهذا الفصل من حياتك. لن يستمر إلى الأبد، ولن يرافقك في الجزء الأخير من حياتك. إذا كان بإمكانك أن ترى حقيقة هذا، فيمكنك أن تتخلى عن جزء منه، وهو أمر جيد لك. لكن إذا لم تستطع أن ترى حقيقة الروابط العائلية المشتركة مع أبنائك، فلن تستطيع التخلي عنها، وسيكون هذا أمرًا قاسيًا بالنسبة إليك. لا يخلو أي والدين من المشاعر عند وفاة أبنائهم. عندما يختبر أي والدين الاضطرار إلى دفن أبنائهم، أو عندما يشاهدون أبناءهم في موقف مؤسف، سيقضون بقية حياتهم يفكرون فيهم ويقلقون بشأنهم، والألم يعتصرهم. لا أحد يستطيع الهروب من هذا: إنه ندبة وعلامة لا تُمحى من النفس. ليس من السهل على الناس أن يتخلوا عن هذا التعلق العاطفي وهم يعيشون في الجسد، لذلك يعانون بسببه. على الرغم من ذلك، إذا استطعت أن ترى هذا التعلق العاطفي بأبنائك على حقيقته، فسيصبح أقل حدة بكثير. بالطبع، ستعاني بدرجة أقل كثيرًا؛ من المستحيل ألا تعاني على الإطلاق، لكن معاناتك ستقل كثيرًا. إذا لم تستطع أن ترى حقيقته، فإنَّ هذا الأمر سيرافقك بقسوة. وإذا استطعت، فسيصبح اختبارًا خاصًا سبب لك صدمة عاطفية شديدة، ويمنحك تقديرًا وفهمًا أعمق للحياة والروابط العائلية وللإنسانية، ويثري اختبارك الحياتي. بالطبع، هذا النوع المحدد من الإثراء هو أمر لا يرغب أحد في امتلاكه أو مقابلته. لا أحد يرغب في مواجهته، ولكن إذا طرأ هذا الأمر فعليك أن تتعامل معه بشكل صحيح. لتجنب القسوة على نفسك، ينبغي عليك أن تتخلى عن أفكارك ووجهات نظرك التقليدية والفاسدة والمغلوطة التي كنت تتبناها سابقًا. ينبغي أن تواجه روابطك العاطفية وصلات الدم بالطريقة الصحيحة، وأن تنظر إلى وفاة أبنائك بطريقة صحيحة. حالما تستوعب هذا الأمر حقًا، ستتمكن من التخلي عنه تمامًا، ولن يعود هذا الأمر يعذبك. أنت تفهمني، أليس كذلك؟ (نعم، أفهمك).

يقول البعض: "الأبناء أصول يهبها الله للوالدين، لذا فهم بمثابة ملكية خاصة للوالدين". هل هذه المقولة صحيحة؟ (لا، ليست صحيحة). يقول بعض الآباء عند سماع ذلك: "هذه مقولة صحيحة. لا شيء آخر يخصنا سوى أولادنا الذين هم من لحمنا ودمنا. إنهم أعز ما لدينا". هل هذه المقولة صحيحة؟ (كلا). ما الخطأ فيها؟ يُرجى توضيح تعليلكم. هل من اللائق معاملة الأبناء على أنهم ملكية خاصة للمرء؟ (لا، هذا ليس من اللائق). لماذا ليس من اللائق؟ (لأن الملكية الخاصة تخص الشخص نفسه وليس الآخرين، لكن العلاقة بين الأبناء والآباء ليست في الواقع أكثر من علاقة جسدية. تأتي الحياة البشرية من الله، إنها النَفَس الذي منحه الله. إذا كان ثمة من يعتقد أنه منح أولاده الحياة، فإن وجهة نظره وموقفه غير صحيحين، وهو لا يؤمن على الإطلاق بسيادة الله وترتيبه). أليس هذا هو الحال؟ بخلاف العلاقة الجسدية، فإن حياة الأبناء والآباء مستقلة في عينيِّ الله. لا ينتمي أحدهم للآخر، ولا تربطهما علاقة هرمية. وبالطبع هي ليست علاقة أنهم يملكون ولا أنهم مملوكين. حياتهم من الله، والله هو مَن له السيادةَ على أقدارهم. الأمر ببساطة أن الأبناء يولدون من آبائهم، والآباء أكبر من أبنائهم، والأبناء أصغر من آبائهم، رغم ذلك، فبناءً على هذه العلاقة، هذه الظاهرة السطحية، يعتقد الناس أن الأبناء هم ملحقات الوالدين وملكيتهم الخاصة. هذه النظرة لا تتناول الأمر من جذوره، بل هي لا تنظر إليه إلا على المستوى السطحي، وعلى مستوى الجسد، وعلى مستوى عواطف الشخص. لذلك، فإن طريقة النظر هذه هي نفسها خاطئة، وهذا المنظور خاطئ. أليس كذلك؟ (بلى). بما أن الأطفال ليسوا ملحقات الوالدين أو ملكية خاصة لهم، بل أشخاصًا مستقلين، فإنه بغض النظر عن شكل توقعات الوالدين لأبنائهم بعد أن يكبروا، لا بد أن تظل هذه التوقعات أفكارًا في أذهانهم؛ لا يمكن أن تتحول إلى واقع. بطبيعة الحال، حتى لو كان لدى الوالدين توقعات لأبنائهم البالغين، فلا ينبغي أن يحاولوا تحقيقها، ولا ينبغي أن يستخدموا أبناءهم للوفاء بوعودهم أو لجعلهم يقدمون من أجلهم أي تضحيات أو ليدفعوا أي ثمن. فماذا ينبغي على الوالدين أن يفعلوا؟ ينبغي عليهم أن يختاروا التخلي بعد أن يصبح لأبنائهم البالغين حياة مستقلة وقدرة على البقاء على قيد الحياة؛ التخلي هو الطريقة الحقيقية الوحيدة لإظهار الاحترام لهم وتحمل المسؤولية تجاههم. إن هيمنة الوالدين الدائمة على أبنائهم أو السيطرة عليهم أو الرغبة في التدخل في حياتهم وبقائهم على قيد الحياة والمشاركة فيهما هو سلوك جاهل من جانب الوالدين ويفتقر إلى الإدراك، وهي طريقة طفولية في القيام بالأمور. مهما علت التوقعات التي يضعها الآباء والأمهات لأبنائهم، فإنها لا يمكن أن تغير أي شيء ومحالٌ أن تصبح واقعًا. لذا، إذا كان الآباء والأمهات حكماء فعليهم أن يتخلوا عن كل هذه التوقعات الواقعية أو غير الواقعية، وأن يتبنوا منظورًا وموقفًا صحيحًا يتعاملون من خلاله مع علاقتهم بأبنائهم ويتناولون به كل تصرف يصدر من أبنائهم البالغين أو أي حدث يقع لهم. هذا هو المبدأ. هل هو ملائم؟ (نعم، إنه ملائم). إذا استطعت تحقيقه، فهذا يثبت أنك تقبل هذه الحقائق. إذا لم تستطع ذلك، وأصررت على القيام بالأمور على طريقتك الخاصة، ظانًّا أنَّ المودة العائلية هي الشيء الأعظم والأهم في العالم والأبرز، كما لو أنك تستطيع الإشراف على مصير أبنائك والإمساك بأقدارهم بين يديك، فلتتفضل وتجرب ذلك، وانظر ماذا ستكون النتيجة النهائية. غنيٌ عن القول إن ذلك لا يمكن إلا أن ينتهي بهزيمة بائسة، دون عاقبة جيدة.

كيف يمكن لنا نحن المسيحيون أن نتحرَّر من رباطات الخطية ونتطهَّر؟ لا تتردد في الاتصال بنا لتجد الطريق.