اِقبل تجارب الله، وتغلّب على إغواء الشيطان، واِسمح لله بأن يمتلك كيانك بأكمله
أثناء عمل الله في عطائه الدائم للإنسان ودعمه له، فإنه يخبر الإنسان عن مجمل إرادته ومتطلّباته، ويُظهِر للإنسان أعماله وشخصيّته وما لديه وما...
نرحّب بكل الساعين المشتاقين إلى ظهور الله!
بعد أن عرفتم كيف اجتاز أيُّوب التجارب، من المُرجّح أن معظمكم يريدون معرفة المزيد من التفاصيل عن أيُّوب نفسه، وخصوصًا فيما يتعلّق بالسرّ الذي اكتسب به مديح الله. ولذلك دعونا نتحدّث اليوم عن أيُّوب!
إذا كنا بصدد بحث شخصيّة أيُّوب، فيتعيّن أن نبدأ بتقييمه من فم الله: "لَيْسَ مِثْلُهُ فِي ٱلْأَرْضِ. رَجُلٌ كَامِلٌ وَمُسْتَقِيمٌ، يَتَّقِي ٱللهَ وَيَحِيدُ عَنِ ٱلشَّرِّ".
دعونا نتعرّف أولًا على كمال أيُّوب واستقامته.

ما فهمكم للكلمتين "كاملًا" و"مستقيمًا"؟ هل تعتقدون أن أيُّوب كان مستقيمًا وبلا عيبٍ؟ سوف يكون هذا، بالطبع، تفسيرًا وفهمًا حرفيّين للكلمتين "كاملًا" و"مستقيمًا". لكن سياق الحياة الحقيقية يتكامل مع فهم حقيقي لأيوب: أي أن الكلمات والكتب والنظريّات وحدها لن تُقدّم أيّة إجاباتٍ. سوف نبدأ بالنظر إلى حياة أيُّوب في بيته، وإلى سلوكه المعتاد خلال حياته. سوف يُخبِرنا هذا عن مبادئه وأهدافه في الحياة، وكذلك عن شخصيّته وسعيه. دعونا الآن نقرأ الكلمات الأخيرة من أيوب 1: 3: "فَكَانَ هَذَا ٱلرَّجُلُ أَعْظَمَ كُلِّ بَنِي ٱلْمَشْرِقِ". تفيد هذه الكلمات بأن وضع أيُّوب ومكانته كانا مرتفعين للغاية، ومع أننا لا نعرف ما إذا كان سبب كونه أعظم رجال المشرق هو أملاكه الوفيرة أم لأنه كان كاملًا ومستقيمًا يتّقي الله ويحيد عن الشرّ، إلا إننا نعرف عمومًا أن وضع أيُّوب ومكانته كانا مصدر تقديرٍ كبير. وكما هو مُسجّلٌ في الكتاب المُقدّس، كانت الانطباعات الأولى لدى الناس عن أيُّوب هي أنه كان كاملًا ومستقيمًا يتّقي الله ويحيد عن الشرّ وأنه كان يمتلك ثروةً كبيرة ومكانةً مُوقّرة. بالنسبة لشخصٍ عاديّ يعيش في بيئةٍ كهذه وفي ظلّ مثل هذه الظروف، سوف يكون أسلوب حياة أيُّوب ونوعيّتها ومختلف جوانب حياته الشخصيّة محطّ أنظار معظم الناس؛ ومن ثمَّ، ينبغي علينا مواصلة قراءة الكتاب المُقدّس: "وَكَانَ بَنُوهُ يَذْهَبُونَ وَيَعْمَلُونَ وَلِيمَةً فِي بَيْتِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي يَوْمِهِ، وَيُرْسِلُونَ وَيَسْتَدْعُونَ أَخَوَاتِهِمِ ٱلثَّلَاثَ لِيَأْكُلْنَ وَيَشْرَبْنَ مَعَهُمْ. وَكَانَ لَمَّا دَارَتْ أَيَّامُ ٱلْوَلِيمَةِ، أَنَّ أَيُّوبَ أَرْسَلَ فَقَدَّسَهُمْ، وَبَكَّرَ فِي ٱلْغَدِ وَأَصْعَدَ مُحْرَقَاتٍ عَلَى عَدَدِهِمْ كُلِّهِمْ، لِأَنَّ أَيُّوبَ قَالَ: "رُبَّمَا أَخْطَأَ بَنِيَّ وَجَدَّفُوا عَلَى ٱللهِ فِي قُلُوبِهِمْ". هَكَذَا كَانَ أَيُّوب يَفْعَلُ كُلَّ ٱلأَيَّامِ" (أيوب 1: 4-5). يُخبِرنا هذا المقطع عن أمرين: الأول هو أن أبناء أيُّوب وبناته كانوا يعملون بانتظامٍ وليمةً حافلة بوفرة من الأكل والشرب؛ والثاني هو أن أيُّوب كان كثيرًا ما يُصعِد محرقات لأنه كان كثيرًا ما يقلق على أولاده وبناته خوفًا من أن يكونوا يرتكبون الخطايا أو يجدّفون على الله في قلوبهم. تصف هذه الكلمات حياة نوعين مختلفين من الناس. الأول، أبناء أيُّوب وبناته الذين كانوا كثيرًا ما يعقدون الولائم بفضل ثرائهم، ويعيشون في بذخٍ، ويشربون الخمر ويأكلون الطعام بحسب شهوة قلوبهم، ويستمتعون بجودة الحياة التي جلبتها الثروة الماديّة. كان من المحتوم في ظلّ هذه الحياة أنهم في كثيرٍ من الأحيان يُخطِئون ويُجدّفون على الله – ومع ذلك لم يُقدّسوا أنفسهم أو يُقدّموا محرقات. ترى، إذًا، أن الله لم يكن له مكانٌ في قلوبهم، وأنهم لم يُفكّروا في نعمة الله، أو يخافوا من الإساءة إلى الله، كما لم يخافوا من التجديف على الله في قلوبهم. بالطبع، لا ينصبّ تركيزنا على أبناء أيُّوب، ولكن على ما عمله أيُّوب عند مواجهة مثل هذه الأشياء؛ هذه هي المسألة الأخرى الموصوفة في المقطع، والتي تتضمّن حياة أيُّوب اليوميّة وجوهر إنسانيّته. وحيثما يصف الكتاب المُقدّس وليمة أبناء أيُّوب وبناته، فإنه لا يذكر أيُّوب؛ يكتفي بالقول إن أبناءه وبناته يأكلون ويشربون معًا. وهذا يعني أنه لم يكن يعقد ولائم أو يشترك مع أبنائه وبناته في تناول الطعام بإسرافٍ. ومع ثراء أيُّوب وامتلاكه الكثير من الأموال والعبيد، لم تكن حياته مترفة. لم تخدعه بيئته المعيشيّة الفاخرة، ولم يدفعه ثراؤه إلى أن يُتخِم نفسه بمسرّات الجسد أو ينسى أن يُقدّم محرقات، فضلًا عن أن تتسبب في حيدانه عن الله تدريجيًّا في قلبه. من الواضح إذًا أن أيُّوب كان منضبطًا في أسلوب حياته، ولم يكن جشعًا أو جاريًا خلف الملذات نتيجةً لبركات الله له، ولم يركز على نوعية الحياة، ولكن بدلًا من ذلك، كان أيُّوب متواضعًا بسيطًا، ولم يكن من عادته التباهي، وكان حذرًا وحريصًا أمام الله، وكان كثيرًا ما يُفكّر في نعم الله وبركاته، ويُكنّ باستمرار قلبًا يتّقي الله. كان أيُّوب في حياته اليوميّة كثيرًا ما ينهض مبكّرًا لإصعاد محرقاتٍ عن أبنائه وبناته. وهذا يعني أن أيُّوب لم يكن يتّقي الله وحسب، بل كان يأمل أيضًا أن يتّقي أولاده الله وألا يُخطِئوا أمام الله بالمثل. لم تشغل ثروة أيُّوب الماديّة مكانًا في قلبه، ولم تحلّ محل الله؛ فسواء كان ذلك من أجل نفسه أو أولاده، كانت جميع أعمال أيُّوب اليوميّة مرتبطة باتّقاء الله والحيدان عن الشرّ. لم يتوقّف اتّقاؤه يهوه الله عند مستوى كلام فمه، بل كان شيئًا وضعه موضع التنفيذ، وانعكس في كلّ جانبٍ من جوانب حياته اليوميّة. يُبيّن لنا هذا السلوك الفعليّ من أيُّوب أنه كان صادقًا ويتمتّع بشخصيّةٍ تحبّ العدالة والأمور الإيجابيّة. كان معنى أن أيُّوب يُرسِل ويُصعِد محرقات عن أبنائه وبناته أنه لم يكن مُؤيّدًا لسلوك أولاده أو موافقًا عليه؛ ولكنه بدلًا من ذلك كان قد شعر في قلبه بالإحباط من سلوكهم وأدانهم. استنتج أن سلوك أبنائه وبناته لم يكن مُرضيًا ليهوه الله، ولهذا كان كثيرًا ما يدعوهم للذهاب إلى يهوه الله والاعتراف بخطاياهم. تُظهِر لنا أعمال أيُّوب جانبًا آخر من إنسانيّته: فهو لم يسلك قط مع أولئك الذين غالبًا ما يُخطِئون أمام الله ويُجدّفون عليه، ولكنه كان يتجنّبهم ويتفاداهم بدلًا من ذلك. ومع أن هؤلاء الأشخاص كانوا أبناء أيُّوب وبناته، فإنه لم يتخلّ عن مبادئه في السلوك؛ لأنهم كانوا أهله، كما أنه لم يتساهل مع خطاياهم بسبب مشاعره. ولكنه بدلًا من ذلك حثّهم على الاعتراف ونيل غفران يهوه الله، وحذّرهم من ألا يتركوا الله من أجل تنعّمهم الشره. لا يمكن فصل مبادئ كيفيّة تعامل أيُّوب مع الآخرين عن مبادئ اتّقائه الله وحيدانه عن الشرّ. كان يحبّ ما يقبله الله ويلفظ ما يكرهه الله، ويحب أولئك الذين يتّقون الله في قلوبهم ويلفظ أولئك الذين يرتكبون الشرّ أو يُخطِئون أمام الله. ظهرت هذه المحبّة والكراهية في حياته اليوميّة، وكانتا تُمثّلان استقامة أيُّوب في نظر الله. وبطبيعة الحال، هذا هو أيضًا تعبير أيُّوب عن إنسانيّته الحقيقيّة والعيش وفقًا لها في علاقاته مع الآخرين في حياته اليوميّة، والتي ينبغي أن نتعلّم عنها.
ذكرنا أعلاه الجوانب المختلفة لإنسانيّة أيُّوب التي ظهرت في حياته اليوميّة قبل تجاربه. تُوفّر هذه المظاهر المختلفة دون شكٍّ معرفةً وفهمًا مبدئيّين لاستقامة أيُّوب واتّقائه الله وحيدانه عن الشرّ، وتُوفّر بطبيعة الحال تأكيدًا مبدئيًّا. والسبب في أنني أقول "مبدئيًّا" هو أن معظم الناس ما زالوا لا يفهمون شخصيّة أيُّوب فهمًا حقيقيًّا ودرجة سعيه في طريق طاعة الله واتّقائه. وهذا يعني أن فهم معظم الناس لأيُّوب لا يبلغ أعمق من الانطباع الجيّد إلى حدٍّ ما عنه والذي تعبر عنه فقرتان في الكتاب المُقدّس تتضمنان كلماته: "يَهْوَه أَعْطَى وَيَهْوَه أَخَذَ، فَلْيَكُنِ ٱسْمُ يَهْوَه مُبَارَكًا"، و"أَٱلْخَيْرَ نَقْبَلُ مِنْ عِنْدِ ٱللهِ، وَٱلشَّرَّ لَا نَقْبَلُ؟". ومن ثمَّ، نحن في أمسّ الحاجة لفهم الجانب الإنسانيّ من شخصيّة أيُّوب عندما تعرّض لتجارب الله؛ وبهذه الطريقة، سوف تتضّح للجميع إنسانيّة أيُّوب الحقيقيّة بمجمل تفاصيلها.
عندما سمع أيُّوب خبر نهب ممتلكاته وفقدان أبنائه وبناته ومقتل عبيده، كان ردّ فعله على النحو التالي: "فَقَامَ أَيُّوبُ وَمَزَّقَ جُبَّتَهُ، وَجَزَّ شَعْرَ رَأْسِهِ، وَخَرَّ عَلَى ٱلْأَرْضِ وَسَجَدَ" (أيوب 1: 20). تُخبِرنا هذه الكلمات حقيقةً واحدة: بعد سماع هذه الأخبار لم يكن أيُّوب مذعورًا، ولم يصرخ، ولم يلقِ باللوم على العبيد الذين أبلغوه بالأخبار، فضلاً عن أنه لم يُفتّش مسرح الجريمة للتحقّق والتأكّد من التفاصيل ومعرفة ما حدث بالفعل. لم يُظهِر أيّ ألمٍ أو ندم على فقدان ممتلكاته، ولم يَنْهَر باكيًا بسبب فقدان أولاده وأحبائه. ولكنه على العكس مزّق جبّته وجزّ شعر رأسه وخرّ على الأرض وسجد. تختلف أفعال أيُّوب عن أفعال أيّ إنسانٍ عاديّ. إنها تُربِك الكثير من الناس وتجعلهم يُوبّخون أيُّوب في قلوبهم بسبب "غلاظة قلبه". عندما يفقد الناس العاديّون ممتلكاتهم فجأةً، قد يبدون مكتئبين أو يائسين وقد يسقط بعض الناس في حالة اكتئابٍ شديد. يعود السبب وراء ذلك إلى أن الناس يرون، في قلوبهم، أن ممتلكاتهم تُمثّل تعب حياتهم وأساس بقائهم والأمل الذي يُبقِيهم على قيد الحياة؛ أمّا خسارة ممتلكاتهم فتعني أن جهودهم كانت بدون مقابل وأنهم بلا أملٍ وحتّى بلا مستقبلٍ. هذا هو موقف أيّ شخصٍ طبيعيّ تجاه ممتلكاته وعلاقته الوثيقة التي تربطه بها، وهو أيضًا أهميّة الممتلكات في أعين الناس. على هذا النحو، تشعر الغالبيّة العظمى من الناس بالارتباك بسبب موقف أيُّوب اللامبالي تجاه فقدان ممتلكاته. واليوم سوف نزيل الارتباك الذي شعر به جميع هؤلاء الأشخاص من خلال شرح ما كان يجري في قلب أيُّوب.
يقتضي المنطق السليم أنه بعد أن وهب الله أيُّوب مثل هذه الممتلكات الوفيرة يجب أن يشعر بالخجل أمام الله بسبب فقدانه هذه الممتلكات، لأنه لم يرعها أو يعتني بها ولم يحتفظ بالممتلكات التي منحها له الله. وهكذا، عندما جاءه خبر سرقة ممتلكاته، كان ينبغي أن يكون ردّ فعله الأول هو الذهاب إلى مسرح الجريمة وجَرْد كلّ شيءٍ كان قد فقده، ومن ثمّ الاعتراف بالله لعلّه يتمكّن مرةً أخرى من نيل بركات الله. ومع ذلك، لم يفعل أيُّوب هذا – وكان من الطبيعيّ أن تكون لديه أسبابه الخاصة لعدم عمل ذلك. كان أيُّوب يؤمن إيمانًا عميقًا في قلبه أن جميع ما يملكه قد منحه إياه الله، ولم يكن نتيجةً لعمل يديه. وهكذا، لم يعتبر هذه البركات كشيءٍ يعتمد عليه، ولكنه بدلًا من ذلك أرسى مبادئ بقائه في التمسّك بكل قوّته بالطريق الذي ينبغي التمسك به. كان يُقدّر بركات الله ويشكره عليها، ولكنه لم يكن مولَعًا بالبركات، ولم يطلب المزيد منها. كان هذا هو موقفه تجاه الممتلكات. لم يفعل شيئًا لنيل البركات، ولم يقلق أو يغضب بسبب نقص بركات الله أو فقدانها. لم يكن سعيدًا لدرجة الهوس والهذيان بسبب بركات الله، ولم يُهمِل طريق الله أو ينس نعمة الله بسبب البركات التي تنعّم بها كثيرًا. يكشف موقف أيُّوب تجاه ممتلكاته للناس إنسانيّته الحقيقيّة: أولًا، لم يكن أيُّوب رجلًا جشعًا، بل كان قنوعًا في حياته الماديّة. وثانيًا، لم يقلق أيُّوب قط ولم يخشَ من أن يحرمه الله من كلّ ما كان لديه، وهو موقف طاعته لله في قلبه؛ وهذا يعني أنه لم تكن لديه أيّة مطالب أو شكاوى حول متى أو ما إذا كان الله سيأخذ منه، ولم يسأل عن السبب، ولكنه اكتفى بالسعي لطاعة ترتيبات الله. ثالثًا، لم يعتقد قط أن ممتلكاته جاءت من تعب يديه، بل إن الله منحه إياها. كان هذا إيمان أيُّوب بالله ومؤشرًا على قناعته. هل اتّضحت إنسانيّة أيُّوب وسعيه اليوميّ الحقيقيّ في هذا المُلخّص المكوّن من ثلاث نقاطٍ عنه؟ كانت إنسانيّة أيُّوب وسعيه جزءًا لا يتجزأ من سلوكه الهادئ عندما واجهته خسارة ممتلكاته. كان السبب بالضبط وراء أن يكون لدى أيُّوب القامة والقناعة ليقول: "يَهْوَه أَعْطَى وَيَهْوَه أَخَذَ، فَلْيَكُنِ ٱسْمُ يَهْوَه مُبَارَكًا"، أثناء تجارب الله هو سعيه اليومي. لم تُكتسب هذه الكلمات بين عشيّةٍ وضحاها، ولم تخطر للتوّ على عقل أيُّوب، بل كانت تُمثّل ما رآه واكتسبه خلال سنواتٍ عديدة من اختبار الحياة. بالمقارنة بجميع مَنْ لا يطلبون سوى بركات الله، ويخشون أن يأخذها الله منهم كارهين هذا الأمر وشاكين منه، أليست طاعة أيُّوب واقعيّة للغاية؟ وبالمقارنة بجميع مَنْ يؤمنون بوجود الله ولكنهم لم يؤمنوا قط بأن الله يسود على جميع الأشياء، ألا يتّسم أيُّوب بأمانةٍ وبرٍّ عظيمين؟
كانت خبرات أيُّوب الفعليّة وإنسانيتّه البارّة الصادقة تعني أنه اتّخذ أكثر القرارات والخيارات عقلانيّةً عندما فقد ممتلكاته وأولاده. كانت هذه الخيارات العقلانيّة لا يمكن فصلها عن سعيه اليوميّ وأعمال الله التي عرفها خلال حياته اليوميّة. أمانة أيُّوب جعلته قادرًا على الإيمان بأن يد يهوه الله تسود على جميع الأشياء؛ وسمح له إيمانه بمعرفة حقيقة سيادة يهوه على جميع الأشياء؛ كما أن معرفته جعلته راغبًا في طاعة سيادة يهوه الله وترتيباته وقادرًا على الامتثال لها؛ ومكّنته طاعته من أن يكون أكثر صدقًا في اتّقائه يهوه الله؛ وجعله اتّقاؤه أكثر واقعيّة في الحيدان عن الشرّ؛ وفي نهاية المطاف، أصبح أيُّوب كاملًا لأنه كان يتّقي الله ويحيد عن الشرّ؛ وكماله جعله حكيمًا، ومنحه أكبر قدرٍ من العقلانيّة.
كيف يجب أن نفهم كلمة "عقلانيّ"؟ التفسير الحرفيّ هو أنها تعني أن يتّسم المرء بالمنطق السليم، ويكون منطقيًّا وراشدًا في تفكيره، وأن يكون كلامه وأفعاله سليمة وحكمه راجحًا، وأن يمتلك معايير أخلاقيّة سليمة ومتناسقة. ومع ذلك، لا يمكن تفسير عقلانيّة أيُّوب بسهولةٍ. عندما يقال هنا إن أيُّوب كان يملك أكبر قدرٍ من العقلانيّة، فإن هذا يتعلّق بإنسانيّته وسلوكه أمام الله. فلأن أيُّوب كان صادقًا، استطاع أن يؤمن بسيادة الله ويطيعها، مما منحه المعرفة التي لم يتمكّن آخرون من نيلها، وهذه المعرفة جعلته قادرًا على تمييز ما أصابه والحكم عليه وتحديده بدقة، ومكّنته من أن يختار بتفكيرٍ ثاقب أدقّ ما يجب أن يعمله وما يجب أن يتمسّك به. وهذا يعني أن كلماته وسلوكه والمبادئ التي تستند عليها أفعاله والطريقة التي تصرّف بها كانت منتظمة وواضحة ومُحدّدة ولم تكن هوجاء أو متهوّرة أو عاطفيّة. لقد عرف كيفيّة التعامل مع كلّ ما أصابه، وعرف كيفيّة إحداث توازن في العلاقات بين الأحداث المُعقّدة وكيفية التعامل معها، وعرف كيفيّة التمسّك بالطريق الذي يجب التمسّك به، وإضافة إلى ذلك، عرف كيفيّة التعامل مع ما يعطيه يهوه الله وما يأخذه. كانت هذه عقلانيّة أيُّوب. وبفضل أن أيُّوب كان مجهّزًا بمثل هذه العقلانيّة قال: "يَهْوَه أَعْطَى وَيَهْوَه أَخَذَ، فَلْيَكُنِ ٱسْمُ يَهْوَه مُبَارَكًا"، عندما فقد ممتلكاته وأبناءه وبناته.
عندما واجه أيُّوب الألم البدنيّ الهائل، واستنكارات أهله وأصدقائه، وعندما واجه الموت، أظهر سلوكه الفعليّ مرةً أخرى وجهه الحقيقيّ لجميع الناس.
دعونا نقرأ أيوب 2: 7-8: "فَخَرَجَ ٱلشَّيْطَانُ مِنْ حَضْرَةِ ٱلرَّبِّ، وَضَرَبَ أَيُّوبَ بِقُرْحٍ رَدِيءٍ مِنْ بَاطِنِ قَدَمِهِ إِلَى هَامَتِهِ. فَأَخَذَ لِنَفْسِهِ شَقَفَةً لِيَحْتَكَّ بِهَا وَهُوَ جَالِسٌ فِي وَسْطِ ٱلرَّمَادِ". هذا وصفٌ لسلوك أيُّوب عندما انتشرت التقرُّحات المؤلمة على جسده. في هذا الوقت جلس أيُّوب في الرماد لأنه كان يعاني من الألم. لم يعالجه أحدٌ أو يساعده على تخفيف ألم جسده؛ وبدلًا من ذلك، استخدم شقفة ليحكَّ بها سطح الدمامل. من الناحية الظاهريَّة، لم تكن هذه سوى مرحلة من مراحل عذاب أيُّوب، ولا علاقة لها بإنسانيَّته واتِّقائه الله، لأن أيُّوب لم ينطق أيَّة كلماتٍ للتعبير عن حالته النفسيَّة ووجهات نظره في هذا الوقت. ومع ذلك، لا تزال أعمال أيُّوب وسلوكه تعبيرًا حقيقيًّا عن إنسانيَّته. قرأنا في سجل الفصل السابق أن أيُّوب كان أعظم جميع رجال المشرق. وفي الوقت نفسه، يُبيِّن لنا هذا المقطع من الفصل الثاني أن هذا الرجل العظيم في المشرق قد أخذ بالفعل قطعة ليحكَّ بها نفسه وهو جالسٌ في وسط الرماد. ألا يوجد تناقضٌ واضح بين هذين الوصفين؟ إنه تباينٌ يُظهِر لنا نفس أيُّوب الحقيقيَّة: على الرغم من وضعه ومكانته المرموقين، فإنه لم يكن يهوى أو يولي أيَّ اهتمامٍ لهذين الأمرين؛ لم يهتم بطريقة نظر الآخرين إلى مكانته، ولم يقلق حول ما إذا كانت أفعاله أو سلوكه سيكون لهما أيُّ تأثيرٍ سلبيٍّ على مكانته؛ ولم ينغمس في منافع المكانة، ولم يستمتع بالمجد الذي كان يصاحب المكانة والوضع. لم يهتم سوى بقيمته وأهميَّة العيش في نظر يهوه الله. كانت نفس أيُّوب الحقيقيَّة هي جوهره: لم يحب الشهرة والثروة، ولم يعش من أجل الشهرة والثروة؛ ولكنه كان صادقًا ونقيًّا وبلا رياءٍ.
يظهر جانبٌ آخر من إنسانيّة أيُّوب في هذا الحوار بينه وبين زوجته: "فَقَالَتْ لَهُ ٱمْرَأَتُهُ: "أَنْتَ مُتَمَسِّكٌ بَعْدُ بِكَمَالِكَ؟ بَارِكِ ٱللهَ وَمُتْ!". فَقَالَ لَهَا: "تَتَكَلَّمِينَ كَلَامًا كَإِحْدَى ٱلْجَاهِلَاتِ! أَٱلْخَيْرَ نَقْبَلُ مِنْ عِنْدِ ٱللهِ، وَٱلشَّرَّ لَا نَقْبَلُ؟" (أيوب 2: 9-10). رأت زوجة أيُّوب العذاب الذي كان يعاني منه، فحاولت إسداء النصيحة له لمساعدته على الهروب من عذابه، ولكن "نواياها الحسنة" لم تلق استحسان أيُّوب، بل بدلًا من ذلك أثارت غضبه لأن زوجته أنكرت إيمانه بيهوه الله وطاعته إياه، كما أنكرت وجود يهوه الله. كان هذا لا يُطاق عند أيُّوب، لأنه لم يسمح لنفسه قط أن يفعل أيّ شيءٍ يعارض الله أو يجرحه، فما بالك لو صدر عن الناس الآخرين. فكيف كان يمكنه الاستمرار في حالة من اللامبالاة بينما يرى الآخرين يُجدّفون على الله ويُهيِنونه؟ ولذلك دعا زوجته "كَإِحْدَى الْجَاهِلاَتِ". كان موقف أيُّوب تجاه زوجته يشوبه الغضب والكراهية، فضلاً عن اللوم والتوبيخ. كان هذا هو التعبير الطبيعيّ عن إنسانيّة أيُّوب في التفريق بين المحبّة والكراهية، وكان تمثيلًا حقيقيًّا لإنسانيتّه البارّة. كان أيُّوب يتّسم بحسّ العدالة – وهو ما جعله يكره رياح الشرّ، ويلفظ ويدين ويرفض البدع العبثيّة والحجج السخيفة والتأكيدات الغريبة، مما سمح له بالتمسّك بمبادئه وموقفه الصحيح عندما رفضته الجموع وهجره المُقرّبون منه.
بما أنه يمكننا رؤية التعبير عن جوانب مختلفة من إنسانيّة أيُّوب في سلوكه، ما الجوانب التي نراها من إنسانيّته عندما فتح فمه ليلعن يوم ولادته؟ هذا هو الموضوع الذي سوف نشاركه أدناه.
تحدّثت أعلاه عن أصل لعن أيُّوب يوم ولادته. ماذا ترون في هذا؟ إذا كان أيُّوب قاسي القلب وخاليًا من المحبّة، وإذا كان بارد العواطف وعديم المشاعر ومنعدم الإنسانيّة، فهل كان ليراعي رغبة قلب الله؟ وهل كان ليكره يوم ولادته لأنه كان يراعي قلب الله؟ وهذا يعني أنه إذا كان أيُّوب قاسي القلب ومنعدم الإنسانيّة، فهل كان ليتضايق لألم الله؟ هل كان ليلعن يوم ولادته لأن الله تضايق بسببه؟ الجواب كلا بالتأكيد! فلأن أيُّوب كان طيب القلب، فإنه راعى قلب الله؛ ولأنه راعى قلب الله، شعر بألم الله؛ ولأنه كان طيب القلب، تحمّل عذابًا أكبر نتيجةً لشعوره بألم الله؛ ولأنه شعر بألم الله، بدأ يلفظ يوم ولادته ومن ثمَّ لعن يوم ولادته. يعتبر الغرباء أن سلوك أيُّوب بأكمله خلال تجاربه مثاليًّا. أمّا لعنه يوم ولادته فيرسم علامة استفهامٍ على كماله واستقامته، أو يُقدّم تقييمًا مختلفًا. في الواقع، كان هذا أصدق تعبيرٍ عن جوهر إنسانيّة أيُّوب. فلم يتم إخفاء جوهر إنسانيّته أو تغليفه أو تنقيحه من قبل شخص آخر. عندما لعن يوم ولادته أظهر طيبة القلب والإخلاص في أعماق قلبه؛ كان مثل ينبوع ماءٍ مياهه صافية شفّافة تكشف حتّى عن قاعه.
بعد معرفة هذا كلّه عن أيُّوب، سوف يكون لدى معظم الناس بلا شكٍّ تقييمٌ دقيق وموضوعيّ إلى حدٍّ ما لجوهر إنسانيّة أيُّوب. كما يجب أن يكون لديهم فهمٌ وتقدير عميقين وعمليّين وأكثر تقدّمًا لكمال أيُّوب واستقامته اللذيْن تكلم عنهما الله. نأمل أن يساعد هذا الفهم والتقدير الناس على السلوك في طريق اتّقاء الله والحيدان عن الشرّ.
– الكلمة، ج. 2. حول معرفة الله. عمل الله، وشخصيّة الله، والله ذاته (2)
كيف يمكن لنا نحن المسيحيون أن نتحرَّر من رباطات الخطية ونتطهَّر؟ لا تتردد في الاتصال بنا لتجد الطريق.
أثناء عمل الله في عطائه الدائم للإنسان ودعمه له، فإنه يخبر الإنسان عن مجمل إرادته ومتطلّباته، ويُظهِر للإنسان أعماله وشخصيّته وما لديه وما...
مع أن الله مخفيٌّ عن الإنسان، إلا أن أعماله بين جميع الأشياء كافية لأن يعرفه الإنسان لم يرَ أيُّوب وجه الله ولم يسمع الكلمات التي...
إذا أخبرتكم الآن أن أيُّوب رجلٌ محبوب، فربّما لا تتمكّنون من تقدير المعنى في هذه الكلمات، وربّما لا تقدرون على فهم المشاعر وراء السبب في...
(أيوب 9: 11) "هُوَذَا يَمُرُّ عَلَيَّ وَلَا أَرَاهُ، وَيَجْتَازُ فَلَا أَشْعُرُ بِهِ". (أيوب 23: 8-9) "هَأَنَذَا أَذْهَبُ شَرْقًا فَلَيْسَ...