الإنسانية تفوز برحمة الله وتسامحه من خلال التوبة الصادقة (الجزء الرابع)

2019 مارس 12

مشاعر الخالق الصادقة نحو البشرية

كثيرًا ما يقول الناس إنه ليس سهلًا أن تعرف الله. لكنني أقول إن معرفة الله ليست أمرًا صعبًا على الإطلاق؛ لأنّهَ كثيرًا ما يُظهر الله للإنسان أفعاله ليراها. فالله لم يوقف أبدًا حواره مع البشرية، لم يحجب نفسه عن الإنسان، ولم يخف ذاته. فقد أُعلنت للبشرية جميع أفكاره وآرائه وكلماته وأفعاله. ولذلك، ما دام الإنسان يرغب في معرفة الله، يُمكنه أن يسعى ليفهم الله ويعرفه من خلال جميع أنواع وسائله وطرائقه. إنَّ السبب وراء الاعتقاد الأعمى لدى الإنسان أن الله يتجنبه عن قصد، وأنَّ الله يخفي نفسه عمدًا عن البشرية، وأنَّ الله ليس لديه نية أن يسمح للإنسان أن يفهمه ويعرفه، هو لأنه لا يعرف ماهية الله، ولا يرغب أن يفهم الله. بل وأكثر من ذلك، لا يشغل الإنسان نفسه بأفكار الخالق أو كلماته أو أفعاله...وصدقًا، إذا استخدم شخص ما وقت فراغه في التركيز على كلمات الخالق وأفعاله وفهمها، وإذا أعطى القليل فقط من انتباهه لأفكار الخالق ولسماع صوت قلبه، فلن يكون صعبًا على ذلك الشخص أن يدرك أن أفكار الخالق وكلماته وأفعاله ظاهرة وجلية. وبالمثل، سيتطلب الأمر القليل من الجهد لإدراك أنَّ الخالق بين البشر في جميع الأوقات، وهو دائمًا في حديث مع الإنسان وكل الأشياء، وأنه يؤدي أعمالًا جديدة في كل يوم. جوهره وشخصيته معبَّر عنهما في حواره مع الإنسان، وأفكاره وخواطره معلَنة بالكامل في أعماله. إنه يرافق البشرية ويلاحظها في كل وقت. يتحدث بهدوء إلى الإنسان وكل الأشياء بكلماته الصامتة: "أنا في السماوات، وأنا بين كل الأشياء. أنا أراقب؛ أنا أنتظر، أنا إلى جانبك...". يداه دافئتان وقويتان؛ خطوات أقدامه رشيقة؛ صوته رقيق وجميل؛ هيئته تمضي وتتحول محتضنةً جميع البشرية؛ طلعته جميلة ورقيقة. لم يغادر قط، ولم يختف قط. هو رفيق البشرية الدائم في الليل والنهار؛ لا يغادر جانبهم أبدًا. رعايته المُكرسة ومودته الخاصة للبشرية، فضلًا عن اهتمامه الحقيقي بالإنسان ومحبته له، كُشِفَت شيئًا فشيئًا بينما كان يخلِّص مدينة نينوى. وعلى وجه الخصوص، فإن الحوار بين الله يهوه ويونان كشف كليًّا عن حنو الخالق تجاه البشرية التي خلقها بنفسه. من خلال تلك الكلمات، يمكنك أنْ تدرك بعمق مشاعر الله الصادقة تِجاه الإنسانية...

سُجلت الفقرة التالية في سفر يونان، 4: 10-11: "فَقَالَ يَهْوَه: "أَنْتَ اعتززتَ بٱلْيَقْطِينَةِ ٱلَّتِي لَمْ تَتْعَبْ فِيهَا وَلَا رَبَّيْتَهَا، ٱلَّتِي بِنْتَ لَيْلَةٍ كَانَتْ وَبِنْتَ لَيْلَةٍ هَلَكَتْ. أَفَلَا أعتز أَنَا بنِينَوَى ٱلْمَدِينَةِ ٱلْعَظِيمَةِ ٱلَّتِي يُوجَدُ فِيهَا أَكْثَرُ مِنِ ٱثْنَتَيْ عَشَرَةَ رِبْوَةً مِنَ ٱلنَّاسِ ٱلَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ يَمِينَهُمْ مِنْ شِمَالِهِمْ، وَبَهَائِمُ كَثِيرَةٌ؟". هذه هي الكلمات الفعلية لله يهوه، من محادثة بين الله ويونان. ورغم أن هذا الحوار موجز، فإنه يفيض برعاية الخالق للبشرية وإحجامه عن التخلي عنها. تعبِّر هذه الكلمات عن الموقف الحقيقي لله والمشاعر التي يحملها الله في داخل قلبه تِجاه كائناته المخلوقة. في هذه الكلمات أيضًا، يذكر الله مقاصده الحقة للبشرية في لغة واضحة نادرًا ما يسمع الإنسان مثلها. ويُمثل هذا الحديث الموقف الذي اتخذه الله تِجاه أهل نينوى. ولكن ما نوع هذا الموقف؟ إنه الموقف الذي اتخذه نحو شعب نينوى قبل توبتهم وبعدها، والموقف الذي يُعامل به البشرية. وبداخل هذه الكلمات توجد أفكار الله وشخصيته.

قصص من الكتاب المقدس | الله يرى التوبة الصادقة في صميم قلوب أهل نينوى

ما هي أفكار الله التي أُعلنت في هذه الكلمات؟ إذا انتبهت للتفاصيل بينما تقرأ، لن يكون صعبًا عليك ملاحظة أنه يستخدم كلمة "الشفقة"، ويُظهر استخدام هذه الكلمة موقف الله الحقيقي تِجاه البشرية.

على مستوى المعنى الحرفي، يُمكن للناس تفسير كلمة "الاعتزاز" بطرقٍ مختلفةٍ. أولًا، تعني "أن تحب وتحمي، وأن تَشعُر بالحنو تِجاه شيء ما"؛ ثانيًا، تعني "أن تُحب كثيرًا"؛ وعلاوةً على ذلك، تعني "أن تكون غير راغب في إيذاء شيء ما وغير قادر على أن تتحمل فعل ذلك". باختصار، تعبر هذه الكلمة عن الحب والمودة الحانية، فضلًا عن عدم الرغبة في التخلي عن شخص ما أو شيء ما، إنها تنطوي على رحمة الله وتسامحه تِجاه الإنسان. مع أن الله استخدم هذه الكلمة، والتي هي كلمة كثيرًا ما يتحدث بها الناس، فإن الله عندما قالها، كُشِف تمامًا صوت قلبه وموقفه تجاه البشرية.

مع أن الناس الذين ملأوا مدينة نينوى كانوا في مثل فساد أهل سدوم، وفي مثل شرهم وعنفهم، فإنَّ توبتهم جعلت الله يُغير موقفه ويُقرر عدم تدميرهم. بسبب أن الطريقة التي تعاملوا بها مع كلمات الله وتعليماته أظهرت موقفًا يتعارض تعارضًا صارخًا مع موقف مواطني سدوم، وبسبب خضوعهم الصادق لله وتوبتهم الصادقة، إضافةً إلى سلوكهم الحقيقي والمخلص من جميع الجوانب، نبع اعتزاز الله بهم من قلبه مرةً أخرى، ومنحهم إياه. من المستحيل أن ما يمنحه الله للبشرية وشفقته عليها من المستحيل أن يستنسخ أي شخص ما يمنحه الله للإنسانية واعتزازه بها، ولا أحد يملك رحمة الله أو تسامحه أو مشاعره الصادقة نحو الإنسانية. هل يوجد شخص تعدّه عظيمًا، رجلًا كان أم امرأة، أو حتى إنسانًا خارقًا، يتحدث من مستوى أعلى أو أعلى نقطة بصفته رجلًا عظيمًا أو امرأةً عظيمةً، ويُقدم هذا النوع من البيان للجنس البشري أو للمخلوقات؟ من يستطيع من بين البشر أنْ يعرف حالة الحياة البشرية كما يعرف راحة كفّه؟ من يقدر أن يتحمل عبء ومسؤولية الوجود الإنساني؟ من هو مؤهل للإعلان عن تدمير مدينة؟ ومن هو مؤهل لأن يعفو عن مدينة؟ من يستطيع أن يقول إنه يشفق على خليقته؟ وحده الخالق! الخالق وحده يشعر بمحبة حانية تجاه هذا الجنس البشري. الخالق وحده هو الذي يُظهر لهذا الجنس البشري المودة الحانية. الخالق وحده هو الذي يحمل نحو هذا الجنس البشري مودة حقيقية من الصعب أن تنفصم. كذلك فإن الخالق وحده هو الذي يستطيع أن يمنح الرحمة لهذا الجنس البشري، وهو وحده يعتز بجميع كائناته المخلوقة. يتأثر قلبه بكل فعل من أفعال الإنسان: فهو يغضب ويغتمّ ويحزن على شر الإنسان وفساده؛ وهو يُسر ويفرح ويتغيَّر قلبه ويبتهج بتوبة الإنسان وإيمانه وخضوعه؛ وكل واحدةٍ من خواطره وأفكاره تُوجَدُ من أجل البشريَّة وتتمحور حولها؛ ما لديه ومَن هو يُعبَّر عنه كليًّا من أجل البشرية؛ عواطفه بأكملها متشابكة مع الوجود البشري. من أجل البشرية، يرتحل ويهرع؛ وبصمت، يعطي كل جزء من حياته؛ ويُكرس كل دقيقة وكل ثانية من حياته... لم يعرف أبدًا كيف يثمِّن حياته، لكنه طالما اعتز بالجنس البشري الذي خلقه بنفسه... إنه يعطي كل ما لديه إلى هذه البشرية... يهبها رحمته وتسامحه دون شروط ودون توقع أي تعويض. يفعل هذا فقط كي يتسنى للبشرية أن تستمر على قيد الحياة أمام عينيه وتحت إمداده بالحباة. يفعل هذا فقط لكي يتسنى للبشرية ذات يوم أن تستسلم أمامه وتتعرَّف أنه الواحد الذي يغذِّي الوجود الإنساني ويزوِّدُ حياة جميع المخلوقات.

الخالق يُعبر عن مشاعره الحقيقية تجاه الإنسانية

هذه المحادثة بين يهوه الله ويونان هي بلا شك تعبير عن مشاعر الخالق الحقيقية للبشرية؛ فهي من ناحية، تُعْلم الناس بفهم الخالق لجميع الخليقة تحت سيادته، كما قال يهوه الله: "أَفَلَا أَشْفَقُ أَنَا عَلَى نِينَوَى ٱلْمَدِينَةِ ٱلْعَظِيمَةِ ٱلَّتِي يُوجَدُ فِيهَا أَكْثَرُ مِنِ ٱثْنَتَيْ عَشَرَةَ رِبْوَةً مِنَ ٱلنَّاسِ ٱلَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ يَمِينَهُمْ مِنْ شِمَالِهِمْ، وَبَهَائِمُ كَثِيرَةٌ؟". وبعبارة أخرى، كان فهم الله لنينوى فهمًا بعيدًا عن الفهم الظاهري السطحي. فهو لم يكن يعلم عدد الكائنات الحية داخل المدينة (بما فيها الناس والماشية) فحسب، بل كان يعلم أيضًا عدد الناس الذين لا يمكنهم التمييز بين أيديهم اليمنى وأيديهم اليُسرى، أيْ كم عدد الأطفال والشباب الموجودين. وما هذا إلَّا دليل ملموس على فهم الله الشامل للجنس البشري. ومن ناحية أخرى، تُعلم هذه المحادثة الناس عن موقف الخالق تجاه الإنسانية؛ وهذا يعني وزن الإنسانية ومكانتها في قلب الخالق؛ كما قال بالضبط يهوه الله ليونان: "أَنْتَ شَفِقْتَ عَلَى ٱلْيَقْطِينَةِ ٱلَّتِي لَمْ تَتْعَبْ فِيهَا وَلَا رَبَّيْتَهَا، ٱلَّتِي بِنْتَ لَيْلَةٍ كَانَتْ وَبِنْتَ لَيْلَةٍ هَلَكَتْ. أَفَلَا أَشْفَقُ أَنَا عَلَى نِينَوَى ٱلْمَدِينَةِ ٱلْعَظِيمَةِ...؟". وكانت هذه هي كلمات توبيخ يهوه الله ليونان؛ ولكنها كانت كُلها صحيحة.

مع أنَّ يونان قد أُوكل إليه إعلان كلمات يهوه الله إلى أهل نينوى، فإنه لم يفهم مقاصد يهوه الله، ولا فَهِمَ همومه وتوقعاته من أجل شعب تلك المدينة؛ وقد قصد الله من هذا التأنيب أنْ يُخبره أن الإنسانية كانت هي نتاج عمل يدي الله، وأنَّه بذل جهدًا مضنيًا من أجل كل شخص، وأن كل شخص أخذ على عاتقه توقعات الله، وتمتع كل شخص بإمداد الحياة له من الله؛ فقد دفع الله لكل شخص تكلفةً الجهد المضني. أخبر هذا التأنيب يونان أيضًا أنَّ الله يشفق على البشرية، التي هي نتاج عمل يديه، مثلما أشفق يونان نفسه على اليقطينة. لم يكن الله بأي حال من الأحول ليتخلى عن البشر بسهولة، أو حتى آخر لحظة ممكنة، لا سيما لأنه كان هناك الكثير من الأطفال والبهائم البريئة داخل المدينة. فعندما تتعامل مع هؤلاء البشر المخلوقين الصغار والجهَّال، الذين لا يستطيعون حتى تمييز يمينهم من شمالهم، لم يكن من المعقول أن ينهي الله حياتهم ويحدد نهاياتهم بهذه الطريقة المتهورة. كان الله يأمل في أن يراهم ينمون، كما كان يرجو ألَّا يسلكوا في السبل نفسها التي سار فيها آباؤهم من قبلهم، وأنهم لن يضطروا إلى سماع تحذير يهوه الله مرة أخرى، وهكذا فإنهم يقدمون الشهادة عن ماضي نينوى. أضف إلى ذلك أن الله كان يأمل أنْ يرى نينوى بعد توبتها، ليرى مستقبلها الذي يتبع توبتها، والأهم من ذلك، أنْ تُرى نينوى تعيش تحت رحمة الله مرة أخرى. ومن ثَم، ففي نظر الله، كان هؤلاء البشر المخلوقون الذين لا يستطيعون تمييز يمينهم من يسارهم هم مستقبل نينوى. كانوا سيحملون ماضي نينوى المهين، بالضبط كما سيحملون الواجب الهام في تقديم الشهادة عن ماضي نينوى وعن مستقبلها بإرشاد يهوه الله. في هذا الإعلان لمشاعره الحقيقية، قدم يهوه الله رحمة الخالق للإنسانية بكاملها. لقد أظهر للبشرية أنَّ "رحمة الخالق" ليست عبارة فارغة، وليست وعدًا أجوف؛ بل إنها تحمل مبادئ وأساليب وأهداف ملموسة. الله صادق وحقيقي، ولا يستخدم البُهتان أو التخفي، وبنفس هذه الطريقة مُنحت رحمته اللانهائية للبشرية في كل زمان وفي كل عصر. غير أنه حتى يومنا هذا، يعتبر الحديث المتبادل بين الخالق ويونان هو بيان الله الأوحد والحصري الشفهي حول سبب إظهار الله رحمته للبشرية، وكيف أظهر هذه الرحمة للبشرية، وكم كان متسامحًا تجاه البشرية، وكم كان مقدار مشاعره الحقيقية للبشرية. عبرت الكلمات البليغة في هذه المحادثة ليهوه الله عن أفكاره من نحو البشرية ككل متكامل؛ إنها تعبير حقيقي عما بقلبه تِجاه الإنسانية، كما أنها أيضًا دليل مادي على إغداق رحمته الوفيرة على الإنسانية. لم تُمنح رحمته للأجيال السابقة في الإنسانية فحسب، بل مُنحت أيضًا إلى الأعضاء الجدد في الإنسانية، تمامًا كما كانت دومًا، من جيٍل إلى جيل. وبالرغم من أنَّ غضب الله كثيرًا ما يأتي على الأماكن المحددة وفي عصور محددة للبشرية؛ فإن رحمة الله لم تتوقف أبدًا! برحمته، يرشد ويقود جيلاً بعد جيل من البشر المخلوقين، ويمدهم ويغذيهم أيضاً جيلاً بعد جيل من البشر المخلوقين؛ لأن مشاعره الحقيقية تِجاه الإنسانية لن تتغير أبداً، بالضبط مثلما قال يهوه الله ليونان: "أَفَلَا أَشْفَقُ...؟". فهو دائمًا يشفق على خليقته. وهذه هي رحمة شخصية الخالق البارة، وهي أيضًا التفرد الكامل للخالق!

– الكلمة، ج. 2. حول معرفة الله. الله ذاته، الفريد (2)

كيف يمكن لنا نحن المسيحيون أن نتحرَّر من رباطات الخطية ونتطهَّر؟ لا تتردد في الاتصال بنا لتجد الطريق.

محتوى ذو صلة